لست مِمَّنْ يميلون إلى تقسيم الإسلام وتصنيفه إلى إسلام سياسي وآخر اقتصادي وثالث اجتماعي، ورابع تشريعي، فالإسلام كما أفهمه كتلة واحدة، مترابطة منسجمة ومتوالية، وأدرك أن الباحثين يضطرون إلى هذا التصنيف لأغراض الدراسة والتأليف ولتنويع التخصصات في مدارس الإسلام وفقهه، ولست مِمَّنْ يرون في القرآن الكريم كتاباً ملهماً يدعو إلى الهداية دون قيود آسِرة، فكثير من آيات القرآن الكريم تبدأ بلا الناهية أو بأفعال الأمر، وتلك أحكام مُقيّدة واضحة ومن مثال ذلك المشهور:
( لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) و(ولا تَقْرَبُوا الزِّنَا ) و (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) و ( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍۢ ) و (وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ) و ( وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ) و( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ) وسوى ذلك من الأوامر والنواهي كثير، فكيف نقول إنه كتاب مُلهِم وليس آسِراً مع كل هذه القيود المعلنة الواضحة؟ والقول بكونه ملهماً فقط ينزع عن أحكامه كونها أوامر جبرية على المسلم المؤمن بالقرآن الكريم، ويجعلها مجرد أفكار إصلاحية قابلة للأخذ والرد، بل فكرة كونه ملهماً فقط، تجعل القرآن كتاباً أدبياً بوسعك أن تستلهم منه قصيدة أو قصة أو مسرحية كما تفعل مع كتاب ( ألف ليلة وليلة ) أو كتاب ( كليلة ودمنة ) لكن المسلمين المؤمنين يدركون الفوارق بين ما هو إلزامي بشرط الإيمان والإسلام، وبين ما هو حض أو ترغيب أو استحسان، وبين ما هو من ثوابت الدين، وبين ما هو متروك للناس من شؤون دنياهم وفق مرجعية كبرى هي (العدل والإحسان وتحقيق المقاصد العليا للأمة) فحيث يتحقق العدل يكون ما نص عليه الإسلام دون تعيين لكيفية محددة أو طريق مقيد، وللناس أن يجتهدوا في أساليب تحقيق العدل حسب ظروف القدرة والبيئة والزمان والمكان، والشرط المطلق هو التمكين في الأرض، وحين يغيب التمكين يُتاح للمسلم أن يتكيف مع الشرط الراهن المفروض عليه، وربما يكون ذلك ما دعا إلى اقتراح فقه الأقليات حيث يعيش المسلمون في بيئات لا يجدون فيها تمكيناً، وليس مطلوباً منهم أن يخاصموا من يحتضنهم بإحسان، أو يدخلوا في صراعات وحروب لفرض رؤيتهم، وسيكونون فيها خاسرين.
ولقد قلت في مقال سابق: إن التشريع الإسلامي انتهى بكمال الرسالة مع وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما حدث بعد ذلك من تشريعات سنها الخلفاء أو الفقهاء هي اجتهادات دولة مدنية اضطرت لاتخاذ مواقف من المستجدات، وقد أوقف بعض الخلفاء تطبيق بعض الحدود حين وجدوا إيقافها لصالح الأمة في ظرف معين، ونذكر ما فعله الخليفة عمر حين أوقف مؤقتاً حد السرقة في عام الرمادة وقال (ما كنت قاطع الناس حتى أشبعهم) وثمة قوله المشهور (هلا كفيتم الناس قبل أن تقطعوا أيديهم؟) وهذا الفهم لنصوص القرآن يؤكد أن الحكم في تاريخ الإسلام لم يكن قهرياً يجعل النص جامداً بل يمنح الحاكم بعد المشورة فرصة الترجيح، ولا ننكر أن كثيراً من الحكام الذين توالوا على الحكم غلبتهم نزعة الاستبداد وشهوة السلطة والطغيان، فخرجوا عن العدل وسفكوا الدماء، وقد برر كثير منهم جرائمهم بفتاوى إسلامية سلطوية ليجعل فعله شرعياً، لكن ذلك لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، فهو نتاج حراك بشري صِرْف في صراعات الخير والشر، والعدل والظلم، وليس من العدل أن نحمّل الإسلام عبء ما يفعل بعض الحكام. ولئن كنت أرتاب في الدعوة إلى كون القرآن ملهماً فقط وغير آسر بنهي و أمر ، فإنني أقبل القول بأن الإسلام كان ملهماً فقط في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي، ولكنه لم يكن الحاكم المطلق، ولئن رفضت أو قبلت مفهوم الدولة المدنية في عصر بني أمية فإنني أدرك أن حرص معاوية على توريث الحكم لابنه يزيد لم يكن من شريعة الإسلام، ولو كان التوريث في الحكم الإسلامي شريعة لكان رسول الله أمر بالحكم لمن يختار حاكماً بعده، أو حدد للناس طرائق اختيار حكامهم، وهو يدرك أنه ملاقٍ ربه، لكنه ترك الحكم للناس يختارون ما يشاؤون، وهو الذي أسس مفهوم الدولة المدنية في وثيقة المدينة المنورة، وجعل أهلها من جميع الأعراق والأديان وبينهم مشركون مسالمون – أمة دون الناس – عبر اتفاقية دفاع مشترك ومواطنة متساوية في الواجبات والحقوق، وسمح للناس أن يمارسوا دياناتهم وفق القاعدة الشهيرة (لَا إِكْرَاهَ في الدِّينِ).
ويرى بعض الباحثين أن كل دولة تَزَعَّمها منصب خليفة أو سلطان مسلم هي دولة إسلامية، مع أن كثيراً من هذه الدول كانت مدنية أو مستبدة ليس لها من الإسلام غير الشكل والمظهر ، وبعض حكامها كانوا يتمسكون بمرجعية إسلامية لكنهم يختارون منها ما يوافق نهجهم ويمكنهم في حكمهم، وكثير منهم كانوا يحرصون على شكلانية المرجعية في ضرورة أن يكون على رأس الدولة خليفة من أصل عربي ويفضل أن يكون قرشياً، مع أنه لا يملك من أمر الحكم شيئاً، فهو مجرد صورة رمزية، وقد حرص المماليك بخاصة على وجود هذه الشخصية الاعتبارية الرمزية، لكن دولهم كانت عضداً في البيان العملي مع بقاء الإسلام مرجعية عامة وهذا ما فعله الظاهر بيبرس بعد انتصاره على المغول وتفرده بالحكم، فقد استدعى الأمير العباسي أحمد بن الخليفة الظاهر، وأقام له احتفالاً مهيباً في القاهرة ولقبه بـ«المستنصر بالله» وأعلن بيعته له كخليفة للمسلمين في يونيو 1261م، ومن الطرائف في تاريخنا أن القاضي المعتضد بن عباد حين انفرد بالحكم في إشبيلية قيل له إن الخليفة هشام المؤيد الأموي منزوٍ ومبتعدٌ عن الناس، فبدأ البحث عنه كي يلبسه عباءة الخلافة ، فوجد رجلاً يشبهه هو (خلف الحصري) فجاء به وأعلن أنه هشام، وأخذ له البيعة واستمر في منصبه نحو عشرين عاماً والمعتضد يحكم باسمه، حتى إنه أخفى خبر موته فترة لحاجته إلى شرعية ومرجعية.
وفي العصر الحديث حين سقطت الخلافة العثمانية (الشكلية) انتهى البحث عن مرجعية أو غطاء إسلامي، وكانت الأمة العربية تحت احتلالات أوروبية، وقد ظهر السؤال عن مرجعية إسلامية، لكن الناس انقسموا فريقين، أحدهما يرى حل الإشكالية في اتباع الغرب وجعل طريقته مرجعية، وثانيهما يرى أن الحل هو في العودة إلى الإسلام، وقد عبر عن التغريب والاندماج في حضارة أوروبا عدد كبير من الكُتاب أبرزهم سلامة موسى وطه حسين، بينما دعا إلى التمسك بالخصوصية المشرقية والإسلامية رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ثم ظهرت أفكار ووجهات نظر مختلفة بين التشدد واليسر، بين تيار يدعو إلى التقليد رغم كونه عاجزاً عن الإبداع، وتيار يدعو إلى الإحياء والتجديد وظهر ت تنظيمات سياسية تعلن أن الإسلام هو الحل، وكان صعباً إيجاد توافُق بين الدعوة إلى التغريب المطلق والاندماج التام مع الفلسفات الأوروبية المادية والعلمانية وبين دعوات الإحياء وبث الحياة في المرجعيات الإسلامية، وللأسف غلب التشدد في الدعوتين، حتى وصل عند الإسلاميين المتشددين إلى الحكم بالكفر والسقوط في جاهلية القرن العشرين على كل من يرفض الخضوع لحاكمية الإسلام، وتشدد العلمانيون (المستغربون) فنادوا بالقطيعة الكاملة مع التراث ومع الدين، وما تزال المعركة مستمرة ومتصاعدة، وسنتابع الحديث عنها في مقال لاحِقٍ.