لماذا توجد في عالمنا شعوبٌ تختار حكّامَها، وأخرى يختار لها حكّامُها كيف تعيش بل وربما كيف تموت؟!
لماذا توجد في عالمنا مجتمعات حرّةٌ، وأخرى تعيش تحت حكم المستبدين، وما إن تخرج من قيد مستبدٍ حتى تقع في قيد مستبدٍ آخر، وكأن الاستبداد قدرها المحتوم؟!
بقيتْ هذه الأسئلة تراودني دون إجابةٍ دقيقةٍ حتى شاهدتُ فيديو اعتراف قتلة الناشط “محمد أبو غنّوم” وسمعت أحدهم يبرّر جريمته قائلاً “هيك بدو المعلم”، عندها فقط عرفت الإجابة الدقيقة عن هذه التساؤلات، نعم، نحن شعوبٌ يحكمها المستبدّون لأنّ مجتمعاتنا تشكّل بيئة خصبةً لهم تنتشر فيها الأدوات التي تعينهم على استبدادهم، من العسكر الذين يقصفون مدننا، إلى الأمن الذين يقنصون متظاهرينا السلميين، إلى السجانين الذين يديرون سجوناً ظالمةً مظلمةً كتلك التي رأيناها في مدينة الباب، ويجدون من بيننا أيضاً من يقتل ناشطاً وزوجته وطفله الذي في بطنها إرضاءً “للمعلم”،
وعلى العكس تماماً، فإنّ المجتمعات الحرة التي تختار حكّامها بل وتحاسبهم إن أخطؤوا، إنّما وصلت إلى هذه المرحلة من خلال الوعي الذي يسود أفرادها ومؤسساتها، هذا الوعي الذي يجعلها منيعةً في وجه المستبدّ الذي لن يجد فيها من يعينه على استبداده ويكون أداةً بيده ضدّ أبناء شعبه، وها هو الرئيس الأمريكي السابق ” دونالد ترامب” الذي حاول بشتّى الوسائل البقاء في السلطة، فمن محاولته ضرب إيران عسكرياً قبل الانتخابات، إلى رفضه نتائج الانتخابات التي فاز فيها منافسه “جو بايدن” إلى أحداث الكابيتول، ولكنّ كلّ محاولاته فشلت لأنها اصطدمت بمجتمع يسوده الوعي, هذا الوعي الذي منع الجيش الأمريكي من التحوّل إلى أداة بيد ترامب؛ لأنّ ضباطه وجنوده يدركون أنهم جيش أمريكا وليسوا جيش قائدها، ولهذا وجد ” ترامب” أن الجيش ضده، ولنفس السبب وجد أنّ الأمن ضدّه, والقضاء ضدّه، وكلّ مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي ضدّه، نعم، لقد كان سلاح أمريكا الذي جعلها تنتصر بسهولةٍ في هذه الحرب التي هدّدت ديمقراطيتها هو الوعي الفردي والمؤسساتي.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الوعي ليس حصراً على الشعب الأمريكي وليس شيئاً فريداً موجوداً في جينات الشعوب الحرّة دون غيرها، وإنما هو شيءٌ ناتج عن سنواتٍ طويلةٍ من التجربة والممارسة السياسيّة والتثقيف الاجتماعي، هو ناتج عن البيئة التي تعزّز الحرية كقيمة كبرى على صعيد الفرد والمجتمع, وتعزّز الانتماء للدولة لا الأفراد، على عكس المجتمعات التي عانت طويلاً من سياسات التدمير الثقافي والفكري الممنهج بواسطة أنظمةٍ وظيفيةٍ مستبدّةٍ سخّرت طاقات البلاد لتنشر فيها ثقافة (هيك بده المعلم)، معزّزةً ثقافة حكم الفرد ولو على حساب الدولة والشعب.
هذه الأنظمة التي عملت على تجهيل شعوبها لتخلق بينهم وبين حريتهم مسافة اسمها الوعي، هذه المسافة التي لا بدّ ولا بدّ ثمّ لا بدّ للشعوب من أن تجتازها يوماً.