قلت لأصدقائي على صفحات التواصل الاجتماعي بأن المواضيع التي تحتاج مُقارَبة في القضية السورية كثيرة، وطلبت تحديد الهواجس والهموم الأكثر إلحاحاً، والتي تدور في الأذهان؛ كي أكتب فيها. قارَبَتْ الاقتراحات المقدَّمَة المائة، وعَكَسَت وعياً ومعرفة وإحاطة بالمسألة السورية، تدلّ على منسوب مرتفع من المسؤولية والمعرفة، أعتزّ بها كسوريّ يعيش وأهلُه الصامدون الصابرون صدى مأساة قلَّ نظيرها في تاريخ البشرية.
اتضح أن تفاعُلهم الكبير يدلّ على غزارة المواجع والهموم؛ والأهم أن أسئلتهم كانت أسئلة العارفين، تُشَخِّص الواقع المرير؛ وفي الوقت ذاته تبحث عن حلول. في الجزء الأول من هذه الدراسة أعرض -بتدخُّل بسيط- ما أتى على ألسنتهم تشخيصاً وتحليلاً لمفاعيل وتأثيرات أهم القضايا الموجعة للتدخل الخارجي. وأُقَدِّم في الجزء الثاني تشخيص الأصدقاء وتحليلهم للوضع الداخلي. وفي الجزأين رصد لرؤيتهم للخلاص الممكن والسبل الواجبة لإعادة سورية وأهلها إلى سكة الحياة.
يرون كيف الروس والأمريكان يختلفون في كل شيء إلا في سورية، ولكنهم في الوقت ذاته يتطلعون إلى هزيمة نكراء لبوتين في أوكرانيا تؤدي بشكل غير مباشر إلى اندحاره في سورية أيضاً. بكل براعة وتفكير رفيع يقولون بأن أمريكا، لأهداف بعيدة وعميقة، وعلى رأسها الاستمرار باستخدام طموحات بوتين وتهوره في تنفيذ ما يخدم مصالحها؛ فهي (أمريكا) لا تريد سقوط روسيا، ولا تريد انتصار بوتين في الوقت ذاته؛ تماماً كما أرادت للحالة السورية أن تستمر دون حسم. من جانب آخر يتساءلون فيما إذا كانت أمريكا تريد بعثرة إيران إلى دويلات؛ وما معنى إغواء بعض شبابها للقتال مع بوتين، وهل سيكون ذلك ضد أوروبا أم الصين؛ وهل يتجه عالمنا نحو حرب عالمية ثالثة، وكيف سيكون حالنا في ظل مجريات وتطورات كهذه.
والأمر ذاته يقرؤونه في مظاهرات إيران العارمة، والتي قد تكون بداية النهاية للمشروع الإيراني في المنطقة وخاصة مخالبه التي تمزق الحياة السورية بنشرها للمخدرات في سورية؛ فما يحدث في إيران من انتفاضة يختلف عمّا سبقه؛ لأنه ينبثق من داخل الأسرة الإيرانية الرافضة لأيديولوجية الملالي، وحراك اجتماعي يهزُّ جذور المنظومة الحاكمة. ومن هنا يرون أنه لا بد من العمل السوري للاستفادة من فرص غرق الاحتلال “الروسي- الإيراني” حُماة النظام، والسعي الداخلي لإضعافهم وهزيمتهم؛ فما يحدث داخل إيران وروسيا يعطي دلالة قاطعة على هشاشة النظامين.
تفاوتت الأسئلة والطروحات حول تركيا ودورها وتطوُّراته ومستجدّاته ومآلاته. كانت بعض النعوت قاسية ساخطة، وصلت إلى حدّ الوصف بالقذارة والتآمر والعنصرية والتجارة بالقضية السورية. وأتت طروحات أقل حدة تذكر لتركيا استيعابها ملايين السوريين؛ وترى في تصريحات بعض مسؤوليها الأخيرة اختبارات سياسية لمنظومة الاستبداد وحُماتها، تسعى لتبديد الضغط الذي تمارسه روسيا وإيران وحتى أمريكا على تركيا. وطرح البعض أنه لا تركيا تستطيع تحقيق مطالب منظومة الاستبداد، ولا الأخيرة قادرة على فعل ذلك. وكل حالات الاستنفار تجاه موقف تركيا الأخير أتت من الثقة والأمان الكبيرة التي وضعها ملايين السوريين بتركيا كصديق ونصير أخير لقضيتهم؛ فأن تخطو خُطوة كهذه تجاه مَن تسبّب بمأساتهم أمر صادم، دفعهم لوصفه بالخسارة السياسية والسقوط الأخلاقي لسياسة تركيا.
لم يكن خفيّاً عليهم الدور الإسرائيلي في استمرار منظومة الاستبداد، التي فعلت بهم وببلدهم ما لم تفعله إسرائيل ، ولكن تتمناه؛ حيث انسجمت أماني إسرائيل مع شعار “النظام” الأشهر: “أحكمها أو أدمرها”. من هنا أتت مفاعيل التأثير الإسرائيلي على القرار الأمريكي بإدارة القضية لا إيجاد حلّ حقيقي لها؛ ومن هنا أيضاً لعبت العلاقة “الإسرائيلية – الروسية” الخاصة بالارتياح الإسرائيلي تجاه التدخل الروسي. تطرقت المداخلات إلى الموقف الإسرائيلي المهادن تجاه تدخُّل ميليشيات حسن نصرالله في سورية. ذكر البعض أن استهداف مواقع إيرانية في سورية من قِبل إسرائيل ليس إلا ذراً للرماد في العيون؛ لاستمرار كذبة “المقاومة والممانعة”. استذكر أحد المداخلين “بيع الجولان، ونزوح أهله عدة مرات”. كتب أحدهم حرفياً: “الاحتلال الإسرائيلي ومنذ نشأته وحتى يومنا هذا لم يشرد من الشعب الفلسطيني مليوناً ونصف إنسان، بينما في تغريبتنا السورية عشرة أضعاف ذلك”. ليتابع: “هذه المقاربة تؤكد لنا أن الاحتلال الإسرائيلي يُعتبر رحيماً مقابل هذا النظام الدموي”.
هناك إحساس بالمرارة تجاه خذلان المحيط العربي لبني جلدتهم السوريين. تذكّر السوريون المبادرات الخجولة وغير الفاعلة لإخوتهم في العروبة. ذكروا استمرار تواصُل بعض تلك الدول مع مَن قتلهم وشردهم، وكيف أوصدت أبوابها بوجوههم، وكيف يسعى البعض لرمي مَن نزح منهم إلى جهنم “النظام”(ومسؤولو لبنان مثالاً على هذا الخذلان).
في الوقت ذاته، تجد في المداخلات مَن يأخذ بعين الاعتبار العمق العربي للقضية السورية، فيتفاءلون بموقف سعودي من الحؤول دون إعادة تكرير منظومة الاستبداد، حيث لا تزال جرائمها ماثلة أمام العالم، ولا تستحق أن تُعاد الثقة بها كي تعود إلى الجامعة العربية؛ ويستذكرون موقف أمير قطر الذي يقول أمام الأمم المتحدة بأن مساءلة النظام على جرائمه بحق السوريين لا يمكن أن تُغفل. وبالمقارنة مع ذلك يسجلون على بعض الدول العربية بهلوانياتها وتلاعُبها بالمصير السوري لأغراض دنيئة؛ ويذكرون بالاسم “الإمارات”، ويستهجنون تَجَدُّد “المبادرة الأردنية” مقتطفين ما قالته صحيفة foreign affairs: ” مَن يجرّب المُجَرَّب….”.
في الجزء الثاني من هذا المقال أسئلة ورصد وتحليل للوضع السوري الداخلي، ورؤى للخلاص الممكن، والسُّبل الواجب اتباعها لإعادة سورية وأهلها إلى سكة الحياة.