ممكن أن ينجح وممكن أن يفشل؛ وهذا غير مرتبط برغائب شخصية أو سياسات داخلية للبلدان العربية أو ما يذهب إليه عشاق نظرية المؤامرة من سعي الأنظمة جميعاً لوَأْد ثورات الربيع العربي، بل العامل الرئيسي في ذلك هو مسار المفاوضات الدولية ثم المفاوضات الإقليمية ضِمن المسار الدولي حول القضية السورية، وهي مبنية اليوم بعد عشر سنوات من الصراع على مبدأ خطوة مقابل خطوة بين روسيا والولايات المتحدة، ومن خلفهما حلفاؤهما ضِمن المجتمع الدولي، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والجيوسياسية التي تقدرها الولايات المتحدة لحلفائها كما تفعل روسيا لحلفائها، ومع الأخذ بعين الاعتبار لحجم المنطقة وأهميتها المتراجعة أمام الصراعات الدولية في مناطق أخرى من العالم وفي مقدِّمتها وسط آسيا وبحر الصين.
بمقدار ما كان النظام السوري مِطْواعاً للمصالح الاقتصادية في المنطقة وخاصة مع تركيا ودول الخليج العربي والأردن فقد كان عامل قلق بسلوكه وممارساته السياسية، وإذ يبحث هذا المقال في العلاقة مع الدول العربية بعيداً عن أزمة النظام مع تركيا باستثماره في دعم الحركات الانفصالية، فإنَّ الامتداد الإيراني مجتمعياً وسياسياً كان حاضراً بخطره قبل انفجار ثورة ربيع سورية عام 2011 ليتعزز هذا الحضور الإيراني بالنفوذ الأمني والعسكري المباشر، ويصبح مصدر تهديد أمني متعدد الجوانب من التجنيد والاختراق إلى الاتِّجار بالمخدرات ونشرها وتسويقها في المنطقة.
ولفهم المشهد بصورة موضوعية لا بد من دراسة مصالح الفاعلين والمتأثرين الخارجيين في سورية، ومخاوفهم، وترتيب أولويات حل الأزمات بالنسبة لهم، وهذا ما كانت تدركه روسيا جيداً وهي ما تزال تقدم نفسها كطرف وحيد قادر على ضمان تبديد المخاوف وتحقيق المصالح لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، مع ما يلعبه هؤلاء الحلفاء من أدوار هامة في تحقيق مكاسب لروسيا لم تكن تستطيع الحصول عليها من الولايات المتحدة بشكل مباشر.
ومع طول هذه المقدمة إلا أنها الباب لتثبيت قاعدة أن التطبيع العربي مع النظام السوري يجري ضِمن السياق العامّ الذي تسمح به الولايات المتحدة، والتي تراعي مصالح حلفائها في المنطقة، وأن هذا التطبيع يجري برعاية ونقاش مباشر بين الدول العربية وروسيا.
صحيح أن وزير الخارجية المصري سامح شكري أعرب للنظام في نيويورك عن دعم بلاده الكامل لعودة سورية إلى جامعة الدول العربية في لقاء على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة 2021، إلا أنَّ الموقف المصري كما موقف معظم دول الخليج العربي يربط ذلك بتحقيق تقدُّم في المسار السياسي، ومع تقديم روسيا لضمانات ذلك إضافة لتقديمها ضمانات للأردن ولإسرائيل بضبط الدور الإيراني في سورية وبالحد من النفوذ الإيراني في محافظات الجنوب درعا والسويداء والقنيطرة فإن الولايات المتحدة وبالتنسيق مع حلفائها ترحب بهذا الدور الروسي لكن دون أن تثق بجديته ومصداقيته إلا من خلال تطوُّر ما يحدث على الأرض، ولا معنى لإصرار النظام على التطبيع أولاً والعودة رسمياً إلى جامعة الدول العربية كشرط للتطبيع، حيث ضابط الأمر هو سياسة خطوة مقابل خطوة التي بين روسيا والغرب وحلفائه.
وصحيح أن النظام يدرك موقعه في الرغبة الدولية لإنقاذ لبنان وفي دوره في حل الكثير من المشكلات الاقتصادية والأمنية للأردن؛ لكنَّه يُدفَع دفعاً للاستجابة للمطالب الروسية وتنفيذها وليس فقط عدم معارضتها، من هنا وجدت موسكو من الضروري استدعاء الأسد لضبط وضمان التزامه الكامل بمقتضيات التقدم في ساحة التطبيع مع الدول العربية دون أي محاولات للعب على المتناقضات التي لطالما اتخذها النظام سياسة له.
في المقابل لا مؤشرات لجدية الروس في تقديم الكثير، خاصة أنَّ خط الغاز العربي على سبيل المثال هو حالياً ضِمن دعم روسيا للحصول على مكتسبات سياسية واقتصادية في سورية؛ لكنه في البُعد الإستراتيجي لا يمكن أن يكون ضِمن مصلحة روسيا في المنطقة.
وبذلك فإنَّ التطبيع العربي مع النظام مرهون بمصالح روسيا في سورية الآنية واللاحقة والنهائية وبموقع إيران من ذلك، ومرهون حالياً بجدية روسيا في تقديم خطوة من طرفها بعد خطوة الأردن بالاتصال الهاتفي بين الملك عبد الله الثاني والأسد وكسر عزلة الأخير سياسياً لعشر سنوات، كما هي مرهونة بتقييم روسيا للخطوة أو الخطوات العربية في مقابل تقييم الولايات المتحدة وحلفائها لما ستقدمه روسيا من حيث جديته وأهميته، وهي في النهاية ليست الحلولَ النهائيةَ للقضية السورية بمقدار ما هي تبادُل مُكتسَبات سياسية واقتصادية مبنية على استثمار الوضع الراهن لا أكثر.