نداء بوست- قسم التحليل والمتابعة- أحمد عكلة
ليست حلب ولا الغوطة الشرقية، ليست داريا ولا معرة النعمان أو سراقب تلك المدن السورية التي حولتها الطائرات الروسية إلى ركام، وحولت شعبها إلى جثث بقيت مدفونة تحت الخرائب أو مهجَّرين هائمين على وجوههم باتجاه خيام لا تقيهم هجير الصيف ولا برد الشتاء.
إنها كييف عاصمة أوكرانيا السوفياتية كما تحلو للروس، وعاصمة الديمقراطية والحرية والخط الدفاعي الأول عن أوروبا الغربية بوجه “الشيوعية التاريخية”كما أصبحت بنظر الغرب بعد المغامرة البوتينية فيها.
كييف التي أراد مسؤولون في الولايات المتحدة أن يُسقطوها في 96 ساعة، وبنفس الوقت كان الروس يتوقعون أن تكون قبل ذلك، ولكن ها هي تقاوم وتعطي فسحة أمل لباقي المدن بالمقاومة ومواجهة الروس على كل الجبهات.
لم يحسب ضابط المخابرات السوفياتية السابق فلاديمير بوتين أن يواجه مشاكلَ بعد أن أفسح له الغرب بتخليهم عن أوكرانيا وأن بإمكانه التقدم والسيطرة عليها، فأطلق العنان لحلمه بإعادة الإمبراطورية السوفياتية من شوارع كييف.. ولكن؟
لكن هذه المرة كان للشعب الأوكراني رأي آخر فلم يعد بإمكان الروس أن يفرضوا حكمهم “الشيوعي الاشتراكي التاريخي” على شعب ذاق طعم الحرية لسنوات في ظل حكم رئيس مدني منتخب شعبياً والذي أصبح بطلاً قومياً في عيون شعبه قبل الغرب.
يشتد ساعد المقاومة الأوكرانية مع وصول دفعات السلاح من أوروبا وتتشكل المقاومة الشعبية التي باتت تواجه الروس بقنابل المولوتوف، حيث أصبح تعدى حجم الخسائر الروسية 4500 جندي منذ بداية الحملة وهو رقم بالتأكيد سيجعل بوتين في مرمى مظاهرات شعبه التي لم تتوقف في موسكو وسان بطرسبرغ.
ظن الرئيس الروسي أن المهمة سهلة بمؤازرة طغاة الشيشان وبيلاروسيا الذين أرسلوا جنودهم ليقتلوا إخوتهم في الثقافة والتاريخ المشترك دفاعاً عن حاكم قتل يوماً ما من الشيشان ربع سكانها وأباد مدنها.
برر بوتين تدخله بأن الثورة البلشفية هي التي صنعت أوكرانيا بشكلها الحالي وستالين حررها ومنحها بعض الأراضي لتشكيل دولتها.
كما أن بعض أراضي أوكرانيا كانت هدية من الاتحاد السوفياتي ومنطقة دونباس سُحبت من سيادة روسيا إلى السيادة الأوكرانية.
الحلم البوتيني بتشكيل نظام عالمي جديد يكون لروسيا فيه كلمة أصبح من الماضي، هذه القوة العالمية التي أصبحت مثخنة بالعقوبات ومنبوذة دولياً حتى أضحت بعض الدول الصغيرة تفرض عليها عقوبات وتمنع سفر المسؤولين الروس.
حتى الآن فإن نتيجة عملية خاسرة للروس الاقتصاد تهاوى والروبل فقد الكثير من قيمته كذلك تم فصل شركات روسية عن نظام سويفت المصرفي وفرض عقوبات منع سفر على الكثير من رجال الأعمال الروس.
الحدث الأهم في العقوبات هو فرض عقوبات سفر على بوتين ولافروف وهو ما سيمنعهم من زيارة العديد من الدول بينها الولايات المتحدة، كذلك تم طرد روسيا من مجلس أوروبا وتم تجريد بوتين من بطولة لقب الجودو.
الحدث الأخطر على روسيا بالطبع هو إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية، وكذلك سماح الدول لمواطنيها بالقتال إلى جانب الأوكرانيين وهو ما معناه بأن الحرب طويلة الأمد والمعدات العسكرية الغربية تتدفق بشكل كبير نحو الحدود الأوكرانية.
5000 صاروخ مضاد للدروع قدمتها السويد للأوكرانيين، وألف صاروخ ألماني أيضاً مضاد للدروع يُضاف لها 500 صاروخ ستينغر مضاد للطائرات وكذلك سيتم تسليمها طائرات مقاتلة حديثة كل هذا قسم من الدعم الغربي الذي يمكن المقاومة الاوكرانية من مقاومة الروس لأشهر.
في ظل احتدام المواقف جاء الموقف التركي متوازناً ولكنه متعاطف بشكل أكبر مع الأوكران وفي سعادة بالغة لمقتل الجنود الروس وخصوصاً مع اشتراك المسيرات التركية في تدمير الأرتال الروسية وذلك انتقاماً للجنود الأتراك، حيث قامت الطائرات الروسية قبل عامين بقتل 37 جندياً تركياً بغارة جوية في إدلب، حينها تحفظت تركيا عن ذكر الروس خشية من وقوع حرب بين الطرفين.
كما قال تشاويش أوغلو: إن تركيا ستطبق بشفافية جميع أحكام اتفاقية مونترو البحرية مع تحول الوضع في الأراضي الأوكرانية إلى حرب.
أما زيلينسكي الممثل الذي برع في دور الرئيس القوي فقد استطاع بدبلوماسيته أن يشرك الغرب كلهم في معركته تارة من باب التخويف وتارة من باب الترغيب، حيث إن بقاءه في شوارع كييف أعطى الثقة لأوروبا وجنوده بمواجهة الروس حتى النهاية، وخصوصاً بعد رفضه عرضاً أمريكياً للخروج من أوكرانيا.
أوروبا اليوم باتت كلها موحدة في تأديب الرئيس الروسي وإهانته، بعدما شعر أنها أصبحت عجوزاً وبات بإمكانه أن يقضمها من بوابة أوكرانيا ولكن ربما أصبحت هذه البوابة فخاً أنهى حلم بوتين في بدايته.
تسبب الرئيس بوتين بخطواته الغبية أن يعطي ذريعة للغرب من أجل إذلاله وإنهاك اقتصاده كذلك فإن تهديداته لدول السويد وفنلندا دفعها إلى طلب عضوية حلف الناتو لمنع مواجهة مصير أوكرانيا.
يدرك الرئيس الروسي أن إطالة أمد الحرب يعني الكثير من الخسائر والأرتال المدمرة والتوابيت المحملة بالجثث والاقتصاد الذي يتهاوى والعديد من الإهانات من قِبل الغرب ومزيداً من المظاهرات الشعبية لذلك قام اليوم بخطوة وُصفت بالمجنونة بتهديده بالسلاح النووي.
خطوة بوتين هي بمثابة خيار أخير وحتى ليس بإمكانه إفناء قارة من أجل طموحات رجل مريض بداء الأمبراطورية، لذلك إما أن يسارع بتفاهم يحفظ ماء وجهه ويخرج كما دخل إلى هذا البلد أو فلينتظر مصير الجيش الأحمر في أفغانستان.
وإذا لم يدرك بوتين خطورة الوضع وبقي مُصِرّاً على إشعال الحرائق في أوروبا فإنه سيكون كمَنْ يحفر قبره بفأسه.