مع اقتراب الحرب الروسية الأوكرانية (العملية الخاصة) من إتمام عامها الأول، ومع كل ما حملته -ولا تزال- من قتل وتدمير وتهجير وتحوُّلات ومفترقات سياسية وميدانية وتكتيكية كثيرة، فالقوات الروسية وبعد تكبُّدها خسائر فادحة بالأرواح والمعدات وخُسْرَانها جنوباً مدينة “خيرسون” الإستراتيجية، وعشرات المناطق الأخرى في شمال شرق البلاد ومحيط “خاركييف” و إقليم “الدونباس” لصالح القوات الأوكرانية فقد باتت المعارك غالباً ما تأخذ طابع الجولات الاستنزافية المستمرة والعنيفة من خلال الاعتماد أكثر على الضربات الجوية المنفذة بالمسيرات الإيرانية من نوع شاهد 136 ومهاجر 12 والصواريخ البالستية بعيدة المدى من نوع” كاليبر وكينجال وزيركون” وغيرها من الأسلحة والمقذوفات التي يستخدمها الروس عن طريق الجو والبر والبحر لاستهداف النقاط الحيوية ومراكز الطاقة (الكهرباء، الغاز، المياه) في كافة المدن الأوكرانية، بهدف الضغط على الشعب الأوكراني والتأثير على معنوياته والتضييق عليه أكثر في حالته المعيشية والأمنية في هذا الشتاء الطويل القارس.
المُلاحَظ ومن خلال متابعة سير المعارك منذ انطلاقتها في 24 شباط 2022 فلا شك أن موسكو في غزوها هذا قد استخدمت غالبية ترساناتها وأسلحتها التقليدية الحديثة، وزجتها في ميادين المعارك وعلى جبهات متعددة، وذلك بغية تحقيق الأهداف المعلنة التي حددها الرئيس بوتين، ولكن ومع اقتراب المعارك من إتمام عامها الأول وترافقها مع كل هذا التدمير والخسائر التي مرت، وحسبما تشير كل الدلائل والوقائع الميدانية على الأرض أن القيادة العسكرية الروسية قد أخطأت كثيراً منذ بدايات الحرب في تقديراتها للمواقف القتالية والميدانية بكافة نواحيها، وأخطأت في تقدير قوة الجيش الأوكراني الحقيقية، ومدى انضباطه القتالي والتفافه مع الشعب حول قيادته السياسية والعسكرية، ناهيك أيضاً عن عدم قيام موسكو بالحسابات الدقيقة والكافية بأن الغرب وواشنطن وبطرق ضغط مختلفة (العقوبات الدولية والتضييق على موسكو، تزويد كييف بكل احتياجاتها المادية والتسليحية) لن يسمحوا لروسيا مهما حاولت بإحراز أي نصر سهل سريع وغير مكلف كما يشتهي له بوتين أن يكون..!
في الواقع فإن الكرملين ونتيجة لحربه هذه بات يعاني مع قواته المسلحة من كثرة الخسائر المادية والبشرية الفادحة، والنقصان الكبير في مخزونات الأسلحة والذخائر، بل وبات الجيش الروسي في كل يوم يمر يغوص أكثر وأكثر في مستنقع استنزاف دَامٍ قد تطول معاركه، دون أي أفق لتحقيق الأهداف الإستراتيجية المرسومة ، ولذلك لمسنا اضطرار “موسكو” نتيجة لكل ذلك لاتخاذ إجراءات التعبئة الجزئية لـ 300 ألف من جنود الاحتياط لديها واستقدام المرتزقة من مجموعات “فاغنر” وغيرها من الدول، وإغرائهم بالجنسية الروسية إنْ قاتلوا إلى جانب قواتها، ناهيك عن تلويحها مراراً وتكراراً باستخدام النووي التكتيكي… إلخ ، بل وبدأنا نتابع كيف بات “بوتين” وهو قائد الدولة العظمى يمد يد الحاجة لإيران لتزويد جيشه بالصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة الانتحارية، بهدف سد العجز الذي باتت تعاني منه قواته ومستودعات ومخازن سلاحه الإستراتيجية.
من كل ما مر أعلاه لا شك أن الجيش الروسي وقياداته العسكرية والسياسية -وعلى رأسهم الرئيس بوتين- بدأت معاناتهم تزداد من طول أمد الحرب وكثرة وفداحة الخسائر فيها، بل ومن نتائجها المباشرة وغير المباشرة التي انعكست وستنعكس أكثر وأكثر على المجتمع الروسي والحالة الاقتصادية والمعيشية للبلاد، ومن هنا فهل هذا كله سيجعل الكرملين يفكر جدياً بالحاجة إلى تفعيل معاهدة الأمن الجماعي لدول الاتحاد السوفياتي السابق؟ وهل سيجير بوتين هذه المعاهدة لخدمة عمليته الخاصة واعتدائه على دولة مستقلة خدمة لأهدافه التوسعية، مع أن الهدف الأساسي المعلن للمنظمة يتمثل في التنسيق وتعميق العمل العسكري السياسي المتبادل للدول التي تضمها المعاهدة وتقديم المساعدة اللازمة، بما فيها الحربية للدول المشاركة التي تتعرض لـ “عدوان خارجي”؟
منظمة الأمن الجماعي
تم إنشاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي عام 2002، بعد أن تم التوافق عليها وتوقيعها عام 1992، وتُعَّرفْ بأنها منظمة دولية إقليمية دخل ميثاقها حيز التنفيذ في 18 أيلول 2003 حيث تضم بين جنباتها دولاً سوفياتية سابقة ست وهي “روسيا وبيلاروسيا وقرغيزستان وطاجيكستان وأرمينيا وكازاخستان”.
تُعتبر هذه الدول من حيث الرؤية والتفكير الإستراتيجي الروسي بُعَيدَ انفراط عقد حلف “وارسو” الحدائق الخلفية الأهم لأراضيها، ولذلك قامت موسكو بإنشاء هذا الحلف العسكري الجديد الذي تسيطر عليه وتقوده وأسمته بـ “معاهدة الأمن الجماعي “الدفاع المشترك” (CSTO)” ولا شك أن “موسكو” بادرت مسرعة لإقامة هذا الحلف بعد الخشية من فقدان السيطرة على تلك البلدان، وبالتالي سيبقى الكرملين يعاني من شبح خطر الناتو الزاحف باتجاهه من الضفة الشرقية ، ولعل أوكرانيا “المثال الأقرب”، بعد أن باتت “كييف” ورقة ضغط كبيرة بيد الغرب، ولا يريد القادة الروس من الدول الأخرى في هذا الحلف المُنْشَأ أن تكون كذلك.
ما هي القدرات العسكرية لجيوش الدول الـست:
تمتلك جيوش الدول الست 4 آلاف و716 طائرة حربية و13 ألفاً و793 دبابة و34 ألفاً و15 مدرعة، و7 آلاف و124 مدفعاً ذاتي الحركة، و8 آلاف و535 مدفعاً ميدانياً، و3 آلاف و880 راجمة صواريخ و620 وحدة بحرية.
وعملياً فإن التجربة العملية الأولى والموقف الجماعي للمنظمة ونشاطها العسكري الميداني كانت عندما أرسل الأمين العام لها “ستانسيلاف زاس” قوات تدخُّل سريع إلى كازاخستان إبان الاضطرابات والأزمة الأخيرة التي حدثت فيها في بدايات العام المنصرم.
في الواقع ومع غضب” بوتين” وتخبُّطه وكثرة وفداحة خسائر قوات بلاده على الجغرافيا الأوكرانية ومع استمرار تدفُّق الأسلحة الغربية الحديثة والمتطورة للجيش الأوكراني ، تزداد المخاوف الدولية مِن أن يكون هذا كله سبباً في توسع دائرة الحرب، ودخول دول أخرى كـ “بيلاروسيا”، وخاصة إذا تُوج هذا باستفزازات مفتعلة كما حدث عند سقوط صاروخ S300 على أراضيها أو باتخاذ إجراءات وقرارات مفاجئة وغير مقدرة أو محسوبة النتائج بالشكل الأمثل من كافة الأطراف التي لها بشكل أو آخر يَدٌ في استمرارية هذه الحرب حتى الآن . فـ “بوتين” وكما هو معروف عنه عدم تقبله للهزائم ولتحقيق أهدافه أو بعض منها فمن الممكن أن يلجأ إلى استخدام “المحرمات”، أو حتى اللجوء إلى تفعيل اتفاقية “الدفاع المشترك والأمن الجماعي” مع دول جواره الست، وبالتالي ولادة إمكانية نشوب صراع دولي قابل للتمدد مركزه أوكرانيا ، ولا شك أن مثل هذا الأمر قد تم بشكل أو بآخر منذ بداية الحرب مع بيلاروسيا التي تتواجد على أراضيها قوات مقاتلة روسية، وقبل يومين فقط أجرت هذه القوات على الأراضي البلاروسية بالاشتراك مع قوات “مينيسك” مناورات مشتركة على مقربة من الحدود الشمالية الأوكرانية.
إذاً فلا شك أن كل الاحتمالات بتوسع دائرة الصراع واردة مع تعنُّت “بوتين” الشديد، والذي يقابله في الطرف الآخر عدم قبول الرئيس زيلينسكي الجلوسَ إلى طاولة المفاوضات، إلا بعد تنفيذ القوات الروسية الانسحاب الكامل وغير المشروط من كافة الأراضي الأوكرانية المحتلة بعد 24 شباط 2022.