في الذكرى الـ22 لوفاة حافظ الأسد، وتسلُّم الوريث بشار الأسد لا بُدّ من إطلالة تشخيصية على بِنْية النظام السوري قبل وفاة حافظ الأسد وبعد ذلك، في محاولة لاستكشاف الفرق في هذه التركيبة البِنْيَويّة، ومدى الاختلاف في ذلك، ضِمن سياقات الاعتماد على الأقارب والأجهزة الأمنية، وانْزِيَاحات واضحة في ماهِيَّة هذه البِنْية، ومدى تلوُّن وتنوُّع هذه الاتِّكاءات لديهما.
حيث اعتمد حافظ على أخيه رفعت الأسد كشخصية عسكرية، ثم على أخي زوجته محمد مخلوف، وشخصيات عسكرية وأمنية مثل علي دوبا وعلي حيدر وإبراهيم الصافي وشفيق فياض، وآخرين بينما اعتمد بشار على رامي مخلوف في البداية ثم تحوَّل إلى زوجته أسماء الأسد وأهليها، إضافة إلى بعض الشخصيات الأمنية الكبرى، وأيضاً المقرب منه وقريبه ذو الهمة شاليش وآخرين. لكن السياسات متشابهة، والتي تكمّ الأفواه وتضرب من حديد على كل مَن تسوّل له نفسه معارضة النظام أو العمل ضده.
يرى الكاتب الفرنسي “ميشيل سورا المقتول في بيروت عام 1986″ أن حافظ الأسد اعتمد على ” التحليل الخلدوني في نشأة الدول وانهيارها، حيث أوضح ابن خلدون أن الاستيلاء على الحكم بالقوة يرتكز على شحن عصبية قبلية أو دينية وتوظيف دعوة دينية أو سياسية كغطاء لها، وصولاً إلى الملك الذي يدوم باستمرار شحن هذه العصبية وتقويتها”.
ويعتقد (سورا) أن “الطائفة العلوية كانت الوعاء الأساسي الذي كرسه حافظ الأسد ليربط مصيرها بمستقبله الشخصي، وتخلَّص من كل الرموز العلوية التي كان يمكن أن تهدد مستقبله، وكان صلاح جديد ومحمد عمران خير الأمثلة على تنحية كل مَن يقف في طريقه من أبناء طائفته. ورافق ذلك جهدٌ دينيٌّ قام به أخوه جميل الأسد بتأسيس (جمعية علي المرتضى)، وكل هذا من أجل جعل طائفته جماعة سياسية لا دينية فقط، وذلك على غرار (الموارنة) في لبنان”.
حافظ الأسد الذي تُوفي في العاشر من حزيران/ يونيو من عام 2000 حكم السوريين بالحديد والنار طيلة 3 عقود، تحولت خلالها البلاد إلى “جمهورية للخوف” . لكنه لم يَمُتْ قبل أن يجهز المسرح السياسي لتوريث السلطة لنجله بشار، الذي ما يزال يحكم سورية حسب رؤية أبيه. حيث يعتبره المتابعون أنه المؤسس لنظام أمني أغرق البلاد في الفساد، وكرّس حكم الفرد والحزب والطائفة.
وُلد حافظ الأسد في قرية القرداحة التابعة لمدينة اللاذقية، عام 1930 في عائلة متواضعة ومغمورة من الطائفة العلوية، وهو الذي كان قد تلقى في عام 1994 صدمة كبرى بمقتل ابنه الكبير باسل حافظ الأسد، الذي كان يهيّئه للحكم من بعده، ما فتح باب القصر الجمهوري أمام ابنه الثاني بشار، الذي ورث عن أبيه تركة سياسية واقتصادية مثقلة بالكثير من الإشكالات.
حول بِنْيَة النظام السوري قبل بشار الأسد وخلال حكمه سألنا بعض الأكاديميين السوريين كيف يرون هذه البنية للنظام السوري، حيث اعتمد الأسد الابن بشكل واضح على الأقارب مثل رامي مخلوف، وأسماء الأسد، وآل الأخرس وذو الهمة شاليش، فيما كان الأسد الأب يعتمد على مُوالين في الحزب والطائفة والأمن. وهل هذا صحيح؟ وإلى أي درجة؟
الدكتور طلال مصطفى الأكاديمي وأستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً قال: “منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة بانقلابه العسكري على رفاقه في حزب البعث بتاريخ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 ، كان اعتماده الرئيسي عَبْر تثبيت سلطته في مؤسسات الدولة على الأجهزة الأمنية والعسكرية الموثوق بها مع المشاركة السياسية والوظيفية (حزب البعث، الجبهة الوطنية التقدمية، مؤسسات اقتصادية مثل اتحاد الغرف الصناعية والتجارية خاصة في دمشق وحلب، عشائر، طوائف) في نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولكن بمشاركة ورقابة خفيّة من قِبل الأجهزة الأمنية. مارس النظام إستراتيجية أمنية تتضمن إبعاد السوريين عن الفعل السياسي خارج دائرة الرئيس الأسد (الأب والابن) نظرياً وممارسة من خلال حصر الفعل السياسي والمجتمعي في حزب البعث الحاكم والمنظمات المُلحَقة به، بما فيها أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحليفة، لخلق شراكة تابعة (غير متوازنة) لبعض الشخصيات السياسية والاقتصادية، التي كان لها تواجد شخصي إلى حدّ ما في الدائرة الموسعة للنظام السوري”.
ثم تابع مصطفى قائلاً: “في الثمانينيات، وعلى إثر الاصطدامات العسكرية مع الإخوان المسلمين، عمل الأسد الأب على نشر أفراد طائفته العلوية بوصفهم الأداة الحاسمة لسلطته في المفاصل الرئيسية لمؤسسات الدولة، خاصة في الجيش وأجهزة المخابرات، حيث شكّل الضباط العلويون العمود الفقري لقادة الوحدات العسكرية والأمنية. ومنح أعضاءها المراكز الحسّاسة بوصفهم مؤتمنين، ولا يشكلون خطراً على سلطة الرئيس الذي يطرح نفسه على مستوى الخطاب العامّ، بوصفه “أبا السوريين”، ولكنه في أدوات التحكم يعتمد، بشكل أساسي، على طائفته، سواء في أدوات القوة التي كانت أجهزة المخابرات أداتها الرئيسية، أو على مستوى التحكّم الاقتصادي. بدأ التحضير منذ منتصف الثمانينيات للعملية التوريثية للسلطة لأبناء حافظ الأسد بإطلاق عبارة “سورية الأسد” في أنساق المجتمع السوري كافة، خاصة في حقلَي الثقافة والإعلام، وقد نجح حافظ الأسد بقبضة أمنية حديدية وعقاب لا يَرحم بتكريس هذه الصورة “سورية الأسد”. لذلك كانت أولى ردات فعل السوريين إثر احتجاجات 2011 الاستهزاء بخطابه السياسي وشخصيته للنَّيْل من هذه القداسة للأسد الأب والابن”.
وأضاف: “على إثر وفاة الأسد الأب، كانت العملية التوريثية مصنوعة سابقاً لذلك حصلت بسلاسة مطلقة دون أية مشكلات داخل بِنْية النظام أو في المجتمع السوري. واستمر الأسد الابن في سياسة أبيه إلى حدٍّ مَا، خاصة في الحقل الأمني والعسكري منذ 2000 وحتى 2011 حيث انطلاق الثورة السورية على النظام الأسدي (الأب والابن) من خلال الشعارات التي هتف بها السوري في الساحات والشوارع.
ولكن في هذه المرحلة شنّ النظام حرباً تدميرية ضد الشعب السوري (شعباً ومؤسسات) وقام بعملية تدميرية للدولة والمجتمع السوري، وحتى تستمر هذه الحرب عمل على إضعاف الدوائر المشاركة بالسلطة إلى درجة الاعتماد على ثلاث مؤسسات سياسية وأمنية بشكل رئيسي، القصر الرئاسي ممثلاً ببشار الأسد وأسماء الأسد، الفرقة الرابعة ممثلة بماهر الأسد، المخابرات الجوية ممثلة بجميل الحسن. وبالتالي إحداث تغييرات بِنْيَويّة وهيكلية في لوحة النخب السياسية والاقتصادية، حيث اعتمد على شخصيات صورية وكاريكاتيرية غير معروفة بالنسبة للسوريين في القطاعات السورية كافة خاصة في السياسة والاقتصاد، تنتمي إلى القاع الاجتماعي والاقتصادي، أغلبها قادت ميليشيات وحواجز عسكرية أثناء الحرب، ونقلها إلى أعضاء في مجلس الشعب، القيادة القطرية، مجلس الوزراء، رجال أعمال. وأزاح الشخصيات التقليدية التي كانت شريكة للنظام قبل عام 2011 لتشكيل نظام سياسي اقتصادي عسكري بكل ما تعني الكلمة (كواجهة لكل من بشار الأسد، أسماء الأسد ، ماهر الأسد) من خلال الوسيط، الأجهزة الأمنية خاصة أمن القصر والمخابرات الجوية”.
الدكتور عبد الله تركماني الأكاديمي والباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة قال لـ”نداء بوست”: “على الرغم من أن الطابع العامّ لكِلا المرحلتين تميز بأننا إزاء نظام مافياوي، فإن سياقهما التاريخي يختلف. إذ إن أغلب مرحلة حافظ الأسد كانت في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين، مما كان يفرض عليه، تبعاً لادّعائه الاشتراكي، توسيع قاعدته الاجتماعية بالاستناد إلى الحزب والريف.
في حين أن مرحلة الوريث بشار الأسد كانت بعد نهاية الحرب الباردة، وسيادة النظام الاقتصادي الرأسمالي، حيث انتهج ما ادعاه بأنه اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي نحا منحى ليبرالياً متوحشاً، اقتضى خلق قاعدة اجتماعية أخرى من الرأسمالية الطفيلية، لذلك اعتمد على آل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس وغيرهم من الطفيليين”.