منذ تأسيس قوات سورية الديمقراطية "قسد" في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 بدعم من التحالف الدولي وواشنطن حيث كانت الغاية المعلَنة والتبرير الأمريكي لدعمها هو البحث عن شريك محلي للحرب على الإرهاب، ومنذ ذلك الوقت تلقت "قسد" دعماً عسكرياً ومالياً كبيراً سمح لها ببناء قوة عسكرية سيطرت من خلالها على سلة الموارد السورية في منطقة "الجزيرة" بما فيها النفط والغاز، وعملت "قسد" تحت جناح حماية التحالف الدولي على تحويل منجزاتها العسكرية في السيطرة على مناطق شاسعة بعد طرد تنظيم "داعش" منها إلى مكتسبات سياسية وبدأت تشكيل الإدارة الذاتية والإعلان عن عَقْد اجتماعي لشعوب منطقة شرق الفرات مُطالِبةً المجتمع الدولي بالاعتراف بهذه الإدارة وإدخالها كشريك في العملية السياسية للحل في سورية، وباتت مطالب الاعتراف بقوات سورية الديمقراطية كجزء من جيش النظام وبالإدارة الذاتية ضِمن المحافظات التي تسيطر عليها شرطين أساسييْنِ للتفاوض مع النظام، وهكذا بقيت أحلام بناء كانتون خاص في مناطق سيطرة "قسد" تراود قياداتها.
تلاشي آمال "قسد" في تحقيق التعويم السياسي
بقيت واشنطن خلال فترة إدارة الرئيس أوباما وترامب وبايدن لا تخرج في تصريحاتها عن وصف علاقتها بقسد أنها علاقة محدودة في محاربة الإرهاب وستنتهي بمجرد الانتهاء من هذا الاستحقاق وتحرص على عدم إعطاء أي وعود سياسية لقسد من شأنها أن تزعج حليفتها أنقرة.
إلى أن بدأت تركيا عملية "غصن الزيتون" كانون الثاني/ يناير 2018 وطرد قوات "قسد" من منطقة "عفرين" حينها كانت "قسد" تقنع نفسها بأن "عفرين" هي تحت الاستحواذ الروسي وهي مَن خانهم، أما الولايات المتحدة فلا يمكن أن تتخلى عنهم باعتبار أن اتفاق "لافروف-كيري" في عام 2015 حدد قواعد الاشتباك بين روسيا والتحالف الدولي واعتبرت مناطق غرب الفرات هي مناطق عمليات روسية لكن بعد معركة "الباغوز" آخِر معاقل تنظيم "داعش" بريف دير الزور في شهر شباط/ فبراير 2019 ليعلن التحالف الدولي انتصاره على تنظيم "داعش" وينتهي بذلك السبب الذي شرع التحالف الدولي دعمه لقوات "قسد" .
عملية "نبع السلام" تكشف الغطاء عن "قسد"
بدأت أنقرة تزيد من حدة تهديداتها لقوات "قسد" مطالِبةً واشنطن بوقف تقديم الدعم لها ليعلن الرئيس ترامب في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019 عن سحب القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات، وفي نفس الوقت تعلن كل من القوات التركية والجيش الوطني بَدْء عملية "نبع السلام" على منطقة "تل أبيض" و"رأس العين" شرق الفرات، وهنا بدت قوات "قسد" منكشفة تماماً أمام الضربات التركية، ولأول مرة لوحت قوات "قسد" بورقة "داعش" فبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان المقرب من "قسد" فقد اجتمعت القيادتان السياسية والعسكرية لمنطقة شرق الفرات اجتماعاً مطولاً ناقشتَا فيه بجدية إطلاق سراح الآلاف من عناصر تنظيم "داعش" وعوائلهم من أطفال ونساء، ممن كانوا في سجون ومخيمات تابعة لقوات سورية الديمقراطية وتحت حراسة مشددة منهم .
وهنا تبين أن قوات "قسد" تتعامل مع ورقة محاربة الإرهاب كأداة لتحقيق أهداف سياسية وليس كغاية بحد ذاتها.
العودة للبحث عن مشروعية الحرب على الإرهاب
رغم موافقة "قسد" على إدخال القواعد الروسية وقوات النظام السوري إلى مناطق سيطرتها لحماية نفسها من الهجمات التركية لكن دخول القوات الروسية والنظام لم يكن بدون ثمن وهو تنازل "قسد" عن مشروعه السلطوي والإدارة الذاتية والقوة العسكرية التي بنتها من دعم التحالف الدولي للنظام كشرط لا بد منه لتقوم موسكو بمنع أنقرة من توسيع نطاق عمليتها العسكرية في شرق الفرات، خاصة أن أنقرة لا تقبل ببقاء قوات "قسد" في المناطق المحاذية لحدودها مع تهديدها المستمر لأمنها القومي .
هنا عادت "قسد" للتفكير بورقة الإرهاب وهي العروة التي وثقت تحالُفها مع التحالف الدولي واعتمدت من أجلها كقوة محلية لمحاربة الإرهاب لقد أدركت "قسد" أن عودة نشاط "داعش" هو وحده الكفيل بمد عمرها المتناقص وهو الوسيلة الأجدى لجر أرجل التحالف الدولي لسورية ومنعه من التفكير بأي انسحاب مفاجئ يتركها فريسة بين أنياب روسيا والنظام وإيران.
ويبدو أن المؤشرات بدأت تدلّ على إجراءات عملية قامت بها قوات "قسد" لبعث تنظيم "داعش" من جديد فقد نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 نوفمبر تحقيقاً يظهر نسخة من استمارة الإفراج، جاء فيها "أن المقاتلين السوريين المسجونين من دون محاكمة، يمكنهم دفع غرامة قدرها ثمانية آلاف دولار، ليتم إطلاق سراحهم، بالإضافة إلى رِشًا تُدفع لقادة "قسد"، ويوقع الأسرى المفرج عنهم على تعهُّد بعدم الانضمام إلى أي تنظيمات مسلحة، مع مغادرة منطقة شمال سورية وشرقها".
ويبدو أن الانفجار الذي استهدف بوابة مدخل سجن "غويران" يوم 21 كانون الثاني/ يناير 2022 والذي يضم أكثر من 5000 عنصر من "داعش" في مدينة الحسكة وما رافقه من فرض "قسد" طوقاً حول السجن ومعارك كر وفر في داخله، هو سيناريو مُشابِه لمسرحية نوري المالكي في عام 2015 عند أفلت 2000 عنصر لداعش من سجن بوكا وسلم محافظة الموصل لـ 200 مقاتل من "داعش" ، صحيح أن اللعبة خرجت من يد المالكي وسقطت حكومته حينها وهو ما قد يحصل مع "قسد" وهي تلعب بكرة النار لكن في النهاية هي الورقة الوحيدة التي باتت بيد "قسد" للعب بها.
ماذا تريد "قسد" من بعث تنظيم "داعش"؟
إن وصول "قسد" لطريق مسدود في سعيها للتأهيل السياسي وفشلها في سحب أي تنازلات ملموسة من النظام السوري دفع بها للرمي بورقة الإرهاب مستغلة المخزون البشري الكبير من الموارد البشرية الإرهابية في سجونها، وبذلك يمكن أن تحقق ثلاث مصالح أساسية:
– ضرب الاستقرار في مناطق سيطرة الجيش الوطني والنفوذ التركي خصوصاً بعد أن أثبتت تحقيقات الجيش الوطني مع معتقلين دواعش عن مقايضة "قسد" أسرى "داعش" لديها مقابل عمليات يقوم بها التنظيم في مناطق سيطرة الجيش الوطني.
– إشعار التحالف الدولي بخطر عودة الإرهاب وهو ما يدفع واشنطن لتوثيق تحالفها مع "قسد" والعدول عن فكرة سحب قواتها من شرق الفرات وكذلك منع النظام وموسكو من التمدد في مناطق شرق الفرات وهو ما يعني شراء المزيد من الوقت بالنسبة لقسد ريثما تتحقق أهدافها السياسية.
– الدفع بمزيد من عناصر "داعش" نحو البادية السورية التي تشكل الخاصرة الرخوة بالنسبة لموسكو وعقدة طرق الإمداد بالنسبة للنظام، وهو ما من شأنه أن يزيد من توحُّل موسكو في البادية السورية وكف أطماعها عن السيطرة على منطقة شرق الفرات أو الضغط على "قسد" لتقديم تنازلات للنظام السوري، لكن هل تنجح "قسد" في هذه اللعبة الخطيرة برغم أن كرة النار التي تلعب بها يمكن أن تحرقها؟.