عندما بدأ التحول نحو النقود الورقية ( بنكنوت) لم يكن أحد يتخيل تلك التعقيدات التي يمكن أن تخلقها تلك الأوراق المغطاة جزئياً بالذهب خاصة في حال طالب الجميع في وقت واحد بصرف عملاتهم بالذهب. لقد أنهى الرئيس الأمريكي نيكسون في 1971 هذا الجدل عندما ألغى تبديل الدولار بالذهب على خلفية مطالبة عدد من الدول أبرزها فرنسا لرصيد الذهب بدل الدولارات التي تمتلكها. على إثر ذلك دخل العالم في عصر نقدي جديد عرف بالنظام النقدي الدولي الحديث الذي يجمع بين مبادئ متفق عليها عالمياً و أخرى تم فرضها بقوة الأمر الواقع.
العملات الرقمية لم تظهر إلى الوجود إلا نهاية القرن العشرين، مستفيدة من تطور التكنولوجيا والطفرة الكبيرة في سرعة الاتصال، لكن لم يكن أحد ليجرؤ على استخدامها عندما تم طرحها في البداية و انهارات عملات كثيرة وأفلست الشركات التي تشغلها. فالأمر معقد ويتعدى النظام النقدي إلى التقنيات والأمان والحسابات والقانون فكلها مسائل تجتمع في مكان واحد هو العملة الرقمية، التي يفترض أن استخدامها الأساسي هو لأغراض الدفع عبر الانترنت ولكنها بهذا تنافس عملات عالمية تعد رمزاً للدول لذا نجد أن معظم الحكومات لا تزال تفرض حولها عقبات قانونية. ولكن العملات الرقمية واقع فرض نفسه كصدمة نيكسون تماماً سرعان ما سيتقبلها العالم.
نقود أم سلعة؟
قد يكون الاستثمار في مجال العملات الرقمية أخذ بالرواج، وليس لأغراض الدفع ولكن لمجرد حملها في محفظة قد تنمو مما يعني زيادة الثروة. قصص كثيرة يتناقلها رواد هذه الصناعة حول أرباح بملايين الدولارات ولكنهم على جانب أخر يغفلون قصص الفشل والخسارة التي خاضها البعض، شركات ومؤسسات وأفراد بعضهم انتهى المطاف بهم في السجن والبعض الأخر أنهى حياته بعد أن قاده اليأس المدفوع بالخسارة إلى هذا المصير.
الشباب العربي اليوم وفي ظل بطالة كبيرة يراقب أخبار العملات الرقمية المشفرة بشغف، معلقاً الأمل على أن دخوله من مكان ما قد ينقله إلى مصاف شباب الأعمال الجدد كأمثال ماسك و زوكربرغ وغيرهما من النماذج الناصعة في عالم التقنيات والابتكار. بعض الشباب العربي هم بالدخول في الأمر فعلياً والبعض الأخر لا يزال يبحث ويترقب، وهنا يخطر على البال سؤال مهم حول جدوى الاستثمار في العملات الرقمية، محاذيره و فوائده، وواقعه الحقيقي.
ظل علماء الاقتصاد التقليديون مقتنعين بأن الثروة تأتي من العمل في المهن التقليدية المنتجة كالزراعة والصناعة والحرف وبرهن البعض -أمثال المفكر الفرنسي فرانسوا كيني- أن التجارة ليست منتجة للثروة بوصفها زيادة في الإنتاج الكلي للبلد، فالتجارة برأيه لا تولد قيمة إضافية فهي مجرد تبادل لا يعطي قيم صافية، ورأى أدم سميث أن النقود ليست الثروة بل العمل هو كذلك، وبعيداً عن الخوض في تفاصيل نظرية، خلص الاقتصاديون إلى أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يولد قيم إضافية موجودة على أرض الواقع، والاستثمار المالي في أسهم وسندات وقيم يتم تداولها وترتفع وتنخفض قيمها، وشجعوا على أن تكون الاستثمارات في الجانب الحقيقي بوصفه مفيداً للبلد والفرد والمجتمع ويخلق قيم إضافية، ورأى الاقتصاديون أن العملات هي وسيط تبادل مستقر نسبياً، وفي حال تحول لسلعة فإنه سيفقد صفة الاستقرار وبالتالي صفته كنقود.
لقد كسرت العملات المشفرة كثيراً من القواعد التقليدية، فهي ولدت لتكون وسيطاً للتبادل عبر الانترنت ومن ثم تحولت نفسها لسلعة، ومجال عمل لعدد كبير من الشباب والأشخاص في مجال الاستشارات والحسابات والتداول والبرمجيات. ولكنها رغم ذلك ظلت تتمتع بتفاصيل خفية وبعيدة أحياناً عن الشفافية وغير مفهومة، ليس بسبب تعقيدات التكنولجيا وحسب ولكن لتعدد الأطراف المشاركة في اللعبة وتعقد الظروف والأدوات اللازمة للعمل، وكذلك سرعة التحول المرتبط بالتقنيات نفسها وبتدفق المعلومات، لتبقى بذلك -حتى اللحظة على أقل تقدير- سلعة استثمارية أكثر من كونها نقوداً. ومثال على ذلك ما حصل مع العملة الشهيرة "بتكوين" التي ارتفعت على إثر أزمة فايروس كورونا المستجد (كوفيد19) محققة أرقاماً قياسية غير مسبوقة فقط لأن عدداً كبيراً من الناس أقبلوا عليها لغرض حفظ ثرواتهم و أموالهم وليس للتداول وشراء السلع رغم ما قامت به شركات كبرى من سماح بالدفع عبر هذه العملة.
مخاطر ومحاذير
المخاطر هي مفتاح الحكم على الاستثمار، فعندما تكون الاستثمارات أرباحها كبيرة هذا يعني أن مخاطرها كبيرة. عملياً سيعني أنك قد تخسر ما كسبته وأكثر في وقت سريع، ولكن الشباب يراهنون على عملات رقمية ناشئة قد تحقق ارباحاً فعلية في وقت قصير، وهذا قد يبدو منطقياً من جهة ولكنه غير مضمون من جهة أخرى.
العملات الرقمية بغض النظر عن عملة محددة هي صناعة مستقبلية -فيما يبدو- حتى الآن، فعدد من الدول سمحت بتداولها ونظمت الأمر، وآخرها كندا التي أعلنت عن الترخيص لصندوق تداول بالبتكوين في بورصتها، ولكن هذا أخذ سنوات من النضال لعملة نشأت قبل أكثر من 12 عاماً، ولن يعني أن أسعار هذه العملة ستستقر عند المستويات التي وصلت لها، فالبورصة الكندية رخصت للتداول مما يجعل الأمر أكثر حضوراً ولكن قد يجعله أيضاً أكثر تقلباً.
دخول الدول في موضوع العملات الرقمية قد يجعل العملة المعتمدة أكثر شرعية ولكن مالذي يجعل دولة تتخلى عن رمزها الوطني والتاريخي الموحد لشعوبها لتدعم رمزاً رقمياً أنشأته جماعة أو فرد ربما يفاجئ الناس في وقت ما بمعلومة أو خطأ غير قابل للتصحيح؟ تبحث بعض الدول في إطلاق عملاتها الرقمية الخاصة فالصين والإمارات وبعض الدول الأوروبية تبحث الأمر جدياً وهو ما سيخلق فرصاً أقل للعملات الرقمية التقليدية ويضعف التداول بها.
فرص العمل في العملة الرقمية اليوم تتزايد أمام الأفراد والدول، وقد يكون الاستثمار في العملة الرقمية الجديدة بشكل خاص مربحاً بنسب كبيرة ولكن على جانب أخر التداول بالعملة الرقمية يحتمل التقلب السريع بسبب المنافسة الشديدة وسرعة تقلب الأسواق وغياب الشفافية واحتمالية دخول لاعبين كبار على الخط.
أمام هذه المزايا والمحاذير قد يكون امتلاك استراتيجية استثمارية هو الحل لهذه المعضلة، فالاستثمار عالي المخاطر يمكن أن يتم له تخصيص جزء من الثروة قد لا يتجاوز 10% إلى 20% على أبعد تقدير، ويبقى العمل في ما هو منخفض المخاطر ومنتج بشكل رئيسي مسألة يجب أن يتم من أجلها تخصيص الوقت والمال الأكبر.
كشاب متخرج حديثاً قد يكون البحث عن عمل ثابت أو تأسيس عمل مستقل في مجال تخصصك هو النقطة التي يجب أن تستثمر بها وقتك ومالك، وفي حال بدأت تدر عليك دخلاً دورياً وذهبت الأمور باتجاه أن تسهم في م اهو مفيد لمجتمعك و أسرتك ونفسك يمكن أن يتم تخصيص شيء من الوقت ورأس المال للاستثمار في مسائل عالية المخاطر كالعملات الرقمية.