آذار شهر الحرب عند الغرب، بينما هو شهر تجدُّد دورة الحياة عندنا. نشهد تفتُّح البراعم، لذلك نحتفل بنيروز في منطقتنا الجغرافية، بأنه عيد الربيع، وشم النسيم، وعيد الأم. فمارس هو إله الحرب عند الغرب، بينما هو شهر الحياة والفرح عندنا. فالمرج ينتفض بعد ذوبان الثلج عندنا، بينما يبدأ القتل عندهم.
من الحروب الأكثر عنفًا في القرن الـ20 كانت في النصف الثاني من شهر مارس (آذار). فقد وقعت حرب فيتنام في الثامن من آذار عام 1965.
وانتظر الناتو الصرب الذين فتكوا بالبوسنيين حتى الرابع والعشرين من آذار عام 1999 ليتدخل بعدها، وغزت أمريكا العراق في العشرين من آذار عام 2003. وفي هذا القرن الـ21، نشهد الحرب الروسية على أوكرانيا في آذار أيضًا.
لا عجب أن تنطلق الثورة السورية، درة ثورات الربيع العربي في هذا الشهر، لتنفض عن كاهلها ظلم عقود من الظلم، تحت سوط فاشية الحكام الذي استعانوا من الغرب كل أدوات القهر، وتدربوا على يد الضباط النازيين في فنون كمّ الأفواه والقمع والإبادة.
كما يشير إليها الروائي السوري إبراهيم الجبين في روايته (الخيمادو) وكيف أسس الضباط النازيون وسائل القمع في بلادنا. لقد احتضن الروس والأمريكان علماء اليهود، فصنعوا لهم القنابل والصواريخ، وأرسلوا لنا ضباطاً نازيين لمساعدة الحكام الطغاة للسيطرة على شعوب الشرق الأوسط والدول اللاتينية.
ثورتنا ثورة كرامة، انتفضت مثلما انتفض كاوا الحداد ضد الحاكم المستبد زوهاك، وانتصر عليه، أشعل حريقًا ضخمًا يمكن رؤيته من جميع أنحاء البلاد. ومنذ ذلك اليوم، أصبح سكان هذه الأرض يشعلون النيران ويحتفلون بهذا اليوم. هذا اليوم يأتي في الواقع يوم 21 مارس واسمه نوروز (يوم جديد).
عيد النوروز في الأدب الشعبي الكردي يأخذ فهما فلسفيا إنسانيا، وحسب إحدى النسخ من الأدب الشعبي التي سمعتها من صديق لوالدي رحمهما الله، بأن أصل تسمية كاوا هي كه رش أي الأذن السوداء، الذي تقُولُ بأنّه في قديم الزمان كان هناك ملكٌ آشوري شرّيرُ سُمّي (الضحاك). كان هذا الملك ومملكته قد لُعِنا بسبب شرِّه.
وحسب الأسطورة حلت لعنة على المملكة بسبب ظلم ملكها الضحاك، فحجبت الشمس عن المملكة، وكان الملك يغذي ثعابينه بأدمغة الأطفال، وحين رغب الملك أخذ طفل الحداد الأخير، ضحى الحداد بخروف وقدم دماغه للملك، فقلّده القريون وأرسلوا أطفالهم إلى الجبال، شكل كاوا منهم جيشا، اقتحم قلعة الملك وقضى على الملك بيده.
وأشعل نارا لإخبار الناس. وأشرقت الشمس ثانية.
مهما تعددت الروايات، فالشعوب وخاصة الشرقية لها أساطير تمجد بطولاتها، ومن أسطورة الحداد، نفهم بأن الحرية دائما هي ثمن الصمود والإعداد الجيد، والإيمان بالهدف.
وثورتنا السورية، ربما تكون يوما ما أسطورة، كيف سلخ الطاغية عبر زبانيته، أظفار وجلود أطفالنا، وكيف ثار شعبنا عليه، وكيف صمت العالم أمام المجارز اليومية، وما العدوان الروسي اليوم إلا نتيجة لتخاذل المجتمع الدولي وتواطئه مع الظالم الذي فتك بشعبه.
وبهذه المناسبة، تعتبر قضية المعتقلين والمختطفين والمغيبين قسراً، من أكثر الملفات حساسية وأهمية، فهي قضية وطنية وإنسانية، ومع كل أسف لم تستطع الجهات الجهات المعنية أن تحقق أي تقدم فيها، بحيث يعطي الأمل بنهاية قريبة تظهر معها وينجلي حال عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف ممّن يمكن اعتبارهم مجهولي المصير.
ربما تم طرق أبواب خاطئة، وربما لم تقدم بشكل كافٍ، وهذا لا يمنع أبدا طرق أبواب أخرى لم تطرق، واستشارة شعوب أخرى، عانت مثل ما عانينا واستطاعت أن تجد منفذا. فليس من المعقول أن تحلم أم أو زوجة أن تضع زهرة على قبر من فقدته.
الاحتفال بذكرى الـ11 للثورة، مهم وضروري، ولكن يجب ألا يتحول إلى طقس سنوي تقليدي، بقدر ما يجب أن يتحول إلى مبادرات خلاقة وفاعلة، منها اقامة حملات من أجل المغيبين قسريا، وإقامة ندوات مع المعتقلين والمغيبين في دول أخرى، يجب أن يكون هناك تواصل مع المظلومين في كل دول العالم. ولعل اليوم فرصتنا أكبر مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يقترب من الشهر، وربما يطول أكثر.
من المهم استخدام كل الوسائل المتاحة، لتقديم صرخة احتجاج وتنديد ومطالبة بالإفراج عن معتقلينا ، وذلك من خلال منصات ونوافذ التواصل الاجتماعي، وكل القنوات المتاحة لتغطي أكبر ساحة ممكنة من هذا العالم الافتراضي ، لنسمع أصواتنا للرأي العام العالمي ومحرضين ضمير المؤسسات والهيئات الحقوقية والقانونية ، للإفراج عن معتقلينا والانتصار لهم ، ودعم نضالنا المستمر في سبيل الحرية والكرامة.
لسنا وحدنا، هناك 65 مليون لاجئ في العالم، ولكننا معاناتنا الأبرز، لذلك قام الكاتب والصحفي الألماني الذي أعد كتاب “ثورة اللاجئين”، بوضع القصة السورية في المقدمة.
في ذلك الكتاب أكثر من عشرين قصة قدمها مراسلون في كل دول العالم، عن لاجئين في كل بقاع العالم، بسبب الفقر أو الحرب الأهلية أو القمع، ولكن كل الأسباب اجتمعت في قضيتنا.
لقد فقد مئات الملايين من الناس حياتهم من أجل الرأسمالية والشيوعية والفاشية. دمرت الحروب والصراعات أطفال ذات البلد، يمينًا ويسارًا ، صراع أيديولوجيات فتكت بالبشر والحجر في القرن العشرين ولم يكن ذلك كافيًا. وحين جاء القرن الـ21 بالربيع العربي لينقذ الناس من براثن الطغاة الذين حجبوا شمس الحرية عقودا طويلة، اجتمعوا مرة أخرى لمنع ذلك.
نحن لم نختَرْ جنسيتنا وجنسنا، ولا ألوان بشرتنا، لنقف بجانب كل مظلوم وضد الظالم، بغض النظر عمن يأتي الظلم أو ضد من يوجهه، ومثلما فعل كاوا وجمع الأطفال الذين شبوا واستطاعوا نَيْل حريتهم، لدينا اليوم فرصة كبيرة ، فالمعرفة باتت أوسع، والحقائق الوهمية تسقط تباعا كأحجار الدمينو، فلم تكن حقائق العالم كما قيل لنا. المستقبل الموعود لم يكن حقيقيًا أيضًا.
وكما قال ألكسندر دوبتشيك حاكم تشيكوسلوفاكيا وبداية حقبة ربيع براغ: “يمكنك أن تدوس الأزهار.. لكنك لن تؤخر الربيع”.