نتكلم في هذه السطور عن الهُوِيّة الوطنية السورية باعتبارها مجموعة العوامل الإنسانية والثقافية والتاريخية والحضارية والاجتماعية والقومية والدينية المشتركة بين مجموعة من السكان، التي تزداد تماسكاً، كلما زادت تلك العوامل والإيمان، والتفاخر بها، والتعريف بها للآخرين، وبالرجوع إلى مفهوم الهُوِيّة الذي عرضناه، لإسقاطه على الحالة السورية، نجد أن هناك كمّاً غزيراً من تلك العوامل، وكانت حاضرة وقائمة دون أن يعكس حضورها حساسية باتجاه سلبي ضد طرف من أطراف السوريين المتنوعين في مشاربهم الدينية والعرقية والفكرية والسياسية، بل نذهب إلى أبعد من ذلك من خلال التباهي في إظهار هذه الصور التي تعكس مدى التلاحم الاجتماعي والعيش المشترك، فاعتلى السوري المسيحي فارس الخوري منبر الجامع الأموي مخاطباً المصلين في المسجد، والفرنسيين الذين ادعوا حماية مسيحيي سورية، بأن مَن يحميه شعبه السوري، ولا أحد غيره. وفي الوقت عينه يتباهى المسلمون بوجود ضريح يوحنا المعمدان في قلب الجامع الأموي، الذي يتقصد زائره الدنوّ الوقور من الضريح وقراءة الفاتحة لساكنه عليه السلام.
لم تكن الهُوِيّة الوطنية السورية غائبة عن نظام الأسد، ومخططاته الهدامة، ولا أبالغ إن قلت إن خطوات إبدال الهُوِيّة بدأت منذ أن استخدم المقبور حافظ الأسد حزب البعث العربي الاشتراكي بحضوره السياسي آنذاك ورمزيته الاجتماعية التي تعود لمؤسسيه (الشامي المسيحي ميشيل عفلق، والشامي السُّني صلاح البيطار، والحموي أكرم الحوراني)، كأداة يسخرها للوصول إلى أهدافه، من دون أن يحكم “بحكم البعث، ولا بثورته، ولا بأهدافه، ولا بأخلاقه وأخلاق الشعب السوري كما قال ميشيل عفلق”.
ومن جانب آخر لم يقف نظام الأسد عند حد تغيير عنصر من عناصر الهُوِيّة، حيث تتميز الهوية بالديناميكية والحركية. ويطفو على السطح أحد عناصرها في مرحلة ما ثم يَخفت؛ بل عمل على إبدال الهُوِيّة الوطنية السورية الذاخرة بقيمها الحضارية والإنسانية بهُوِيّة يمكن تلخيصها بـ”سورية الأسد”. والإبدال في اللغة يعني إضافة شيء مقام شيء آخر غيره، وهو تغيير بعد الإزالة، وليس تغييراً بتحويل شيء إلى شيء آخر.
نماذج وصور إبدال النظام للهُوية
أدرك نظام الأسد ما يحمله العقل الجمعي للسوريين من اتجاهات قيمية للشخصيات الوطنية، والأحداث التاريخية، والمعالم المعمارية الآثارية التي تتنوع في دلالاتها التاريخية والوطنية، فعمل على إهمالها وتهميشها من كافة جوانب الحياة العامة للسوريين عَبْر مؤسساته المختلفة وفق خطط ممنهجة في الإعلام والتربية والمؤسسة العسكرية والأمنية. وأهمل على سبيل المثال بيت العقيد عدنان المالكي، ووضعه تحت تصرف مؤسساته (فرع المتاحف التابع للإدارة السياسية)، وترك مقتنياته عرضة للغبار والتلف، دون أن يعمل على تحويل هذا المنزل إلى متحف يرتاده الزوار والطلاب والباحثون ليكون مرجعاً على تلك المرحلة التاريخية للبلاد، ودور الرجل فيها. كما أهمل ضريح البطل يوسف العظمة في جبل قاسيون، وتركه عرضة لرعاة الأغنام والتطاول عليه من قبل مَن يجهل ساكن هذا المكان.
ورغم أن مدينة السويداء حملت إرثاً وطنياً واضح المعالم في التاريخ السوري، فإن المقبور حافظ الأسد لم يَزُر المدينة، أو قائد الثورة السورية الكبرى “سلطان باشا الأطرش” فيها، إلا لتأدية واجب العزاء عند رحيله، الأمر الذي يفسر إهماله للمدينة وتفقير أهلها.
أما عن الأحداث التاريخية، فقد تجاهل كل الأحداث والمحطات التاريخية الوطنية التي مرت بها الدولة السورية، ومر عليها مرور اللئام، فلم يعمل على إحياء ذكرى جيش الإنقاذ وقائده فوزي القاوقجي ودوره في الدفاع عن فلسطين، وكان من المفترض أن تُدرَّس تلك التجربة في الكليات والأكاديميات العسكرية، الأمر الذي لم يتم، وتم عوضاً عنه تدريس حكمة القائد الخالد فيما سُميت بحرب تشرين التحريرية، ودوره في الإعداد المادي والمعنوي للمعركة. ولم يقف عند هذا الحد، فوضع كافة الشارات والرايات التي كانت تعود لألوية وأفواج جيش الإنقاذ في أحد الأقبية، بعد أن نقلها من المتحف الحربي الذي كان يتخذ من التكية السليمانية مقراً له، قبل إغلاقه. بينما حشد المؤتمرات والمهرجانات الخطابية والمَسيرات المؤيدة للأحداث التي أراد أن تُشكّل هُويّة السوريين وبناءهم الفكري، كثورة الثامن من آذار والحركة التصحيحية.
وشكلت المعالم المعمارية عائقاً كبيراً أمام مشروعه الهدام، ونظراً لعدم قدرته على إزالتها أو هدمها، عمل على بناء معالم معمارية ترتبط بالهُوية التي يعمل على تشكيلها، حيث أنشأ مكتبة الأسد، بدلاً من الدعاية للمكتبة الظاهرية في دمشق، والدلالة على عمقها التاريخي، وأثرها المعرفي، وأفرغها من المخطوطات التي كانت تضمها لإثراء مكتبته “الأسد”.
وأنشأ عند مدخل دمشق بانوراما حرب تشرين التحريرية، وأرسل الكتب والتعاميم إلى وزارة السياحة والتربية، لتنظم رحلات تعريفية بالصرح العظيم، ودور القائد حافظ الأسد فيه. وينطبق الحال على كثير من المعالم التي نالها الإهمال المعنوي تارة كقصر العظم، أو الاتجار بها والارتزاق من ورائها في إشارة منه على دنو قيمتها، كتأجيره للمنطقة التاريخية لمحطة قطار الحجاز بدمشق لمدة “45” عاماً لصالح فندق سياحي وشركات تجارية.
جوانب كثيرة طالتها يد النظام في طريقه لإبدال الهُوية، حتى أنها امتدت لتغيير البنية الديموغرافية لأهم المدن السورية، ونشر وترويج ساكنيها الجدد من الطائفيين الموالين للنظام لثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تتعارض مع سكان المدن الأصليين، وقد يقول قائل إننا نعارض حرية التنقل والتملك التي تنص عليها الدساتير الديمقراطية، لكننا نقول إن انتقال مُوالِي الأسد كان منظماً ومدعوماً طوقت تلك المدن، كما طوقت المستوطنات الإسرائيلية مدينة القدس في فلسطين.
آخِر ما تفتقت عنه عقلية النظام إطلاقه لقب “القائد المؤسس” في محاولة منه لربط تاريخ الدولة السورية وهُوِيّتها به، من جهة، ضارباً عُرْض الحائط بكافة المحطات التاريخية والسياسية والقانونية لرجالات الاستقلال ومَن تلاهم. وللرد على الذين انتفضوا ضده من مطلع عام 2011م رافضين الاستمرار في حكمه.
لم تقتصر تلك الإجراءات على مدينة دمشق فحسب، إنما طال ذلك التبديل للهُوِيّة الوطنية السورية وطمس معالمها كافة المدن السوري، وإنما برزت تلك التبدلات في دمشق لعلو نسبتها عن بقية المحافظات، ولأهداف تقع في رأس النظام.