نداء بوست – تحقيقات- كندة الأحمد – إسطنبول
منذ اندلاع شرارة الثورة السورية في منتصف شهر آذار/ مارس 2011، حين خرجت مظاهرات الشعب السوري وعمت كافة البلاد، رفضاً للظلم والاستبداد الذي يمارسه نظام الأسد، والأطفال السوريون في معاناة مستمرة على مر السنوات الماضية، خرج أهاليهم مطالبين بحقهم المشروع بأن يكونوا أحراراً في بلادهم كي يتمتعوا بكافة حقوقهم، بسلام وأمان على تراب الوطن، غير أنهم تعرضوا لتهجير قسري، وخسائر كبيرة أزهقت أرواح الآلاف من الأطفال والنساء، في قصة نزوح طويلة.
بعض هؤلاء الأطفال رأى النور بعد العام 2011، ولا يعرف البلاد التي جاء منها أهله، يسمع عنها منهم ومن نشرات الأخبار، بينما عليه أن يواصل حياته ويتعلم في المدارس التي يجد له فيها مكاناً في بلاد اللجوء.
تركيا كانت من البلدان التي احتضنت السوريين ووفرت لهم فرص العمل والتعليم، ومع مرور بعض المظاهر العنصرية والأصوات الرافضة لوجودهم، إلا أن هذا لا ينفي أن مدارس تركيا فتحت أبوابها لهم، تلاميذ ومعلمين ومعلمات، في هذا التحقيق يحاول ”نداء بوست“ الاقتراب من عالم تعليم الأطفال الذي لا يعرف عنه الكثيرون إلا عناوينه وأرقامه.
التعليم في صميم الشخصية السورية وسط آلاف القصص والمعاناة، لم ينس السوريون ما برعوا فيه منذ آلاف السنين ”العلم“، ولم تنسهم أوراق وأرقام الأمم المتحدة وطنهم، يؤلمهم الحنين إليه، وما فعلته به وبهم الحرب الدامية التي شنها ضدهم النظام المتوحش، ولم تتبدد آمالهم في تحقيق أحلامهم، وأصبحت رغبتهم بتغيير الواقع قضية وطنية، بأن يتلقوا العلم ويثبتوا أنفسهم بجدارة رغم قسوة الظروف التي عاصرتها أجيال منهم، فوجدوا بصيص أمل، في كراسة المدارس وارتياد الجامعات في تركيا، التي تحتضن قرابة الـ 3 ملايين لاجئ سوري على أراضيها، والنصيب الأكبر كان لمدينة إسطنبول، بحسب إحصائية أجرتها إدارة الهجرة في وزارة الداخلية التركية، في 8 من آيار/ مايو الماضي، حول أعداد المقيمين على أراضيها بلغ العدد 542,606 آلاف شخص. وأعدت وزارة التربية التركية بياناً نشرته وسائل إعلام محلية بأن من هم في سن التعليم مليون و 124 ألف طفل، بلغ عدد المسجلين منهم في المدارس التركية 730 ألف طفل بنسبة 65%، ووفق تقرير أيضاً صدر عن الوزارة بأعداد من غير المسجل، ولم يلتحق بمقاعد الدراسة، 393 ألفاً و547 طفلاً أي ما يعادل 35%.
رحلة مع الأطفال
من الطبيعي أن تسمع اللغة العربية عند عبور الشارع في حي “زيتون بورنو” الواقع في إسطنبول بالجزء الأوروبي منها، وقد جلست أراقب الأطفال عند دخولهم باب المدرسة، وهم يرتدون اللباس الموحد، أثناء سماعهم صوت الأجراس تدق، وكنت أتساءل هل هم مترقبون أم معتادون على الجو العامّ؟.
أردت الدخول إلى المدرسة لأقابل المدير المسؤول، والاستفسار عن أحوال الطلاب السوريين في هذه المدرسة، لكن لم أتلقَّ إجابة من أحد.
شعرت أني سأعود بخفي حُنين، خاوية الوفاض من هذه التجربة، حتى رأيت معلمة سورية تعمل منذ ثمان سنوات في المدرسة الإعدادية.
تقول المعلمة التي طلبت عدم ذكر اسمها، والتي تعمل أيضاً مترجمة: إن هناك صعوبات عديدة يواجهها الطلاب في المدرسة لكن يستطيعوا بطريقة أو بأخرى إكمال مسيرتهم التعليمية، ومنهم من لا يقوى على التحدث باللغة في المنهاج، والآخر من تقدم بمرحلة وهو لا يعلم شيئاً عما ذكر في الكتب.
البعض يواجه كلمة ”سوري” التي تقال له من أقرانه ومعلميه بطريقة لها معانيها، لكن لا أحد يكترث لذلك من الطلاب الآن، فهم فراشات تطير على الأرض، ووعيهم أكبر من أعمارهم، والمشكلة التي وصفتها المعلمة بأنها الأكبر ألا وهي اللغة الأم “العربية” أصبحت في طي الكتمان تقريباً.
الطالب عبد العزيز الذي يدرس في الصف السابع من المرحلة الإعدادية، سألته عن أحواله وأجابني بإبتسامةٍ لطيفة: إنه يحبُّ مدرستهُ جداً ويتكلم التركيةَ بطلاقةٍ، واعتاد على ذلك، ولديه العديدُ من الأصدقاء هنا، ويحبُّ معلمهُ في الصف، معاملته جيدة جداً، وأثناء الحديث مع عبد العزيز لوحَ لي طالبٌ صغير ليلقي السّلام، سألته عن اسمه، هو الطالب أحمد الذي يدرس في الصف السادس يقول أحمد: مدرستي جميلةٌ، ولا أتعرض لأيَّ مضايقاتٍ من أحد، لكن اللغة كانت حاجزاً بعض الشيءِ أثناء شرح الدروس وخاصةً الدروس “العلمية “، ورغم ذلك، استطعت أن أكسر هذا الحاجزِ.
حيدر أيضاً طالبٌ سوري في المدرسة يدرس في الصف السادس تعلم اللغة التركية منذُ نعومة أظفاره، لم تكن هناك عقباتٌ في طريقه، وبدأ شخصاً اجتماعياً بل وكثيراً، فضلاً عن أنه طليق اللِسان، ومتكيفٌ مع الظروفِ كلها بلا استثناء.
أما الطالبة أسماء، فهي تلميذةٌ في الصف الثامن، أخبرتني بأنها سعيدة جداً بمدرستها، وتتقنُ التركية جيداً، وتريد أن تصبحَ مهندسةً في المستقبل، ولم تواجه أسماء إلا الإيجابيات في مقعد الدراسة، وإلى جانبها تماماً كانت الصغيرة دعاء ابنة عمّها في الصف الخامس، وبدأت تتحدث لي عن طموحها بأنها ستصبحُ طبيبةً عظيمةَ في المستقبل، وأشادت بمعلميها جداً وطريقةِ تعامُلهم معها ومساعدتها لتتجاوز عقبة اللغة، أظنُ بأنها تميزت واستطاعت أن تقوم بذلك بشكلٍ بديهي،
ابتسامتهم جميلةٌ، ويحبون بعضهم بعضاً جداً، وجدوا أنفسهم في الغربةِ الخانقة وكأنهُ شعور الانتماء إلى الوطن الواحد.
رأيتُ أحلاماً وآفاقاً كبيرة للأطفال هنا، يتعلمون ويعلموننا على الصبرِ والكفاح من أجل مستقبلٍ زاهرٍ يستحقه كلُ طفلٍ في هذا العالم، يتكيفون بطريقتهم الخاصة، صغارٌ لكن أحلامهم كبيرةٌ يعبرون عن حبهم لوطنهم بأن يصبحوا أطباءَ ومهندسين، ومثقفين ليقدموا كلّ ما لديهم من معرفةٍ وعطاء في سبيل النجاح الذي يحلمون به في دول الجوار، وأن يصنعوا فارقاً في تاريخ الحرب السورية، للأجيال القادمة، وأن تصبحَ قصةً يرويها كلُّ مَن فارق وطنه، ليخطََّ بيده قصة كفاحٍ مستمرة إلى يومنا هذا.
بحسب وزارة التربية والتعليم التركية ساعد مشروع( Piktes) “دمج الأطفال السوريين في المدارس التركية” الذي بدأ في, 21 كانون الأول /ديسمبر 2018, بدعم من الاتحاد الأوروبي، وبمساعدة حزب العدالة والتنمية إلى رفع نسبة التعليم إلى 90%، والقدرةَ على محاربةِ الأميَّة بين الطلاب السوريين في تركيا.