نداء بوست -محمد جميل خضر
المتابع لمقابلات الناشط السوري عمر الشوغري (27 عاماً) المعتقل السابق في سجن صيدنايا البغيض حيث قضى فيه زهاء ثلاثة أعوام من نهايات 2012 وحتى منتصف 2015، والملتقط ما وراء الكلمات في حواراته وتصريحاته وخطابه التاريخي في الأمم المتحدة، يصل إلى خلاصة مفادها أن الأمل ليس مجرد كلمة تقال.
لم يكن الشوغري يتجاوز الخامسة عشرة من عمره عندما اعتقل أول مرّة، وبين الخامسة عشرة والعشرين قضى الفتى النحيل ثلاث سنوات منها في واحد من أعتى سجون العالم، وأكثرها وحشية، ولا إنسانية، ونهجاً إجرامياً متجرداً من قيم، أو حدود، أو روادع.
لم يكن الاعتقال والتعذيب والإذلال الممنهج وعتمة الأقبية وجرب الأيام الصعبة، هو كل ما تعرّض له الفتى ولمّا يبلغ الرشد بعد، بل يضاف إلى كل ذلك ذبح والده (الضابط السابق في جيش النظام عندما كان بعض الشعب يعتقد أنه جيش الوطن) وشقيقه وشقيقته الذين كانوا من بين ضحايا مجزرة البيضا قرب بانياس، وقتل ابني خالته وشقيقتهما داخل السجن نفسه الذي نجا منه عمر بأعجوبة خارج حدود منطق السجن الوضيع. حتى أن ابن خالته بشير على وجه الخصوص، الذي يكبره بخمسة أعوام، وكان بمثابة القدوة له، وملاذ الأمان، وأنموذج النضال من أجل الحرية والكرامة والحياة، مات بين يديه خلال واحد من المشاوير المميتة للوصول إلى الحمّام. لا يسمح للسجين البقاء في الحمّام لأكثر من نصف دقيقة، ولكن مشوار الوصول إليه والعودة منه، يستغرق دقائق رعب لا يوصف على امتداد دهليز معتم، لا يعرف الأسير خلال قطعه من أين يأتيه الضرب، وتكسير العظم، واقتلاع أنفاس الحياة.
مأساة أخرى كان على عمر الشوغري التعامل معها والرضوخ لحقيقتها، هي اكتشافه أنه لا يستطيع، بعد كل ما تعرّض له مما هو فوق طاقة البشر من تعذيب وتجويع ووحشية غير مسبوقة، البقاء مع والدته التي لم يبق لها غيره ولم يبق له غيرها، فخلاصه من المسلخ البشري لم يكن بقرار إفراج، بل بعد دفع والدته ما يزيد على 20 ألف دولار، أعدم مجرمو النظام من سجّاني صيدنايا بسبب هذا المبلغ الذي تقاضوه، سجيناً آخر تحوّل يوم الإفراج عنه إلى يوم تصفيته، في حين تحوّل يوم إعدام عمر إلى يوم تهريبه من الجلادين الفاسدين، ووصوله، وقد أصبح مجرد شبح لا يكاد يبلغ وزنه 40 كيلوغراماً، إلى الشام. ومن الشام جرى تهريبه إلى تركيا، ومن تركيا ركب البحر، وهو يعاني من السل وكلّ وجعٍ ومرضِ جلدٍ وأسى ذاكرةٍ رافقته من سجنه، من دولة أوروبية إلى أخرى، إلى أن استقر به المقام في السويد. المفارقة أن السجين المصريّ الذي أعدموه بدل عمر وأعطوه اسمه ليوم واحد فقط يوم الإعدام، كان صديقاً لعمر، وأعطاه الشوغري طعامه قبل ذهابه لما اعتقد أنه إعدامه، فأي أسى سيرافقه حتى وهو يعانق الحرية المشتهاة كل أيام حياته الباقية، الطويلة إن شاء الله: أسى شعوره أن حريته كان ثمنها الغدر بسجينٍ كان يتحضّر للخروج من قلعة الموت.
ابن خالته بشير قدوته ونبراس أمله وسند أمانه، كانت ثمة لازمة يظل يرددها محاولاً إشاعة بعض الأمل في نفوس المساجين المرهونين لمتواليةٍ لا تنتهي، يموت عشرة ثم يأتون بعشرة غيرهم، وهذه اللازمة هي عبارة (مية وردة)، إضافة لممازحته السجناء بين الفينة والأخرى بعبارات من مثل (الله يزوّجك). لم يستوعب عمر في البداية هذه الروح التي يتحلّى بها ابن خالته ورفيق أسره، ولم يفهم من أين يأتي بكل هذه القوة ورباطة الجأش. واليوم وبعد نيله حريته بالطريقة التي نالها فيها، واستعادته صحته ووزنه وممكنات تقدمه في دروب العمر، وقبوله في جامعة جورج تاون، وحصوله على عائلة سويدية تحبه وتحدب عليه، بات عمر يعرف قيمة ما كان بشير يشيعه من ممكنات أمل، ويوزّعه من ابتسامات إصرارٍ على الحياة.
يسأله المذيع لماذا كل هذا الموت في صيدنايا، فيجيبه عمر أن أسباب الموت في السجن كثيرة، منها انعدام الأمل، ويروي له قصة عبد الوهاب الذي قتله خوفه وفداحة الضغط النفسي الذي تعرض له. مات وهو متكوّم على نفسه يرتجف ولا يأمل من الحياة شيئاً مفرحاً.
يقول عمر: “مات بشير وأنا ما متت.. مات كل الناس حولي وأنا ما متت.. نقلوني إلى سجن آخر وما متت.. فبدأ السجناء يسألونني: كلهم ماتوا ولم تمت أنت: لماذا؟”، ويصف كيف بدأ يشعر من الخجل أنه لم يزل على قيد الحياة التي تنتظر الموت، ويؤكّد في مقابلة موقع “سرده” أن تبدّل السجناء حوله؛ عشرة يموتون وعشرة جدد يحلّون مكانهم، شكّل متوالية كادت تطيح به، وتجعله يفرّط بما زرعه بشير داخل شرايين وجدانه من قدرةٍ على المواجهة، وتمسّكٍ بالأمل.
واليوم صارَ عمر سفير إطلاع العالم على ما يتعرض له شعبه في بلدهم سورية، وكيف حوّل نظام مجرم معنى الوطن إلى ألم لا ينتهي، ويروي صدمته في أول مظاهرة سلمية شارك فيها وكان في الخامسة عشرة من عمره فقط، عندما كان الضابط يعطي أوامره بتلقيم الكلاشينكوف وتصويبه نحو الحشد المسالم ثم يعطي أمره الأخير بالتسديد وإطلاق الرصاص. تخيّل نفسه في لعبة، في مشهد تمثيليّ سرعان ما سيقول المخرج (ستوب) فيعود من سقطوا حوله إلى الحياة، ويضحك الضابط، ويضحك المخرج، ويضحك الجميع. المأساة التي غيرت وجه أيامه إلى الأبد، أن المشهد لم يكن ضمن مسرحية هزلية، ولم يكن مجرد كابوس راوده، بل حقيقة من دم وآهات ولوعات لا يزال الشعب السوري يعاني منها. وهو في ذهوله هذا، هجم عليه الجند واعتقلوه (بدك حرية يا عرصة)، ليبدأ الجحيم الذي لم ينته إلا بعد مغادرته ملاعب الصبا وحارات البيضا ومباهج بانياس.
مفارقة أخرى أن عمر وهو في عمره عندما اعتقلوه أول مرّة، ظنّ أن الجنديّ يسأله بحق إن كان يريد حرية، وأنه ينتظر جواباً ما، فأجابه (إيه والله سيدي بدي حرية) ليدفع ثمن جوابه هذا تكسّر بعض أعظمه، ونزفه مزيداً من دمه الذي واصل، إضافة لدم شعبه كلّه، النزف، وبرأيي أنه نزيف لن يتوقّف إلا بزوال نظام القتل الجبان.
يملك عمر كريزما لافتة جعلت خطابه للعالم حول أوضاع سجناء بلده مسموعاً دون ملل أو تململ. ولعل الحياة غير المتوقعة التي منحها الله له، تصب في مصلحة شعبه وقضيته العادلة مطالباً بالحرية والكرامة، ومنافحاً عن حقّه بالوجود الآدميّ، أسوة بباقي شعوب العالم.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية