"نداء بوست" – تحقيقات ومتابعة – يافوز سيلفي
تعمل تركيا على تغير دفّة إستراتيجية الدفاع والحرب في العالم من خلال استخدام الطائرات المسيّرة والطائرات المسيّرة المسلحة التي تنتجها وتصدرها إلى العالم منذ 20 عاماً. اتخذت الطائرات المسيّرة والطائرات المسيّرة المسلحة التركية دوراً فعالاً في حروب مدينة إدلب السورية وليبيا ومدينة كراباخ الأذربيجانية، حيث غيرت مجرى تلك الحروب. فما هي المغامرة التي تكمن وراء نجاح طائرات تركيا المسيّرة؟ ووصولاً إلى هذه المرحلة فقد أصبحت تركيا تصدر طائراتها المسيّرة حتى إلى الدول الأوروبية. فكيف حققت هذا النجاح؟
ولماذا تبدو الولايات المتحدة الأمريكية قلقةً من الطائرات المحلية المسيّرة والطائرات المسيّرة المسلحة التي أثرت بشكل مباشر بنتائج حروب سورية بدايةً ومن بعدها ليبيا وكاراباخ؟
أولى أعمال تركيا في مجال الطائرات المسيرة
كان أول اختبار طيران لطائرة شاهد إكس١ (Şahit X1) عام 1990 ، وفي عام 1992 أصبحت هذه الطائرة جاهزة للاستخدام. لقد استطاعت تركيا إنتاج طائرتين فقط من طراز شاهد إكس١ (Şahit X1) ، ولكنها لم تستطع أن تبدأ بإنتاجٍ متسلسل لهذا النوع من الطائرات. وإن عدم القدرة على البدء بإنتاج متسلسل لهاتين الطائرتين وبَوْؤُها بالفشل، استحضر إلى العقول ذكرى حادثة مشابهة في تاريخ الطيران التركي. هذه الحادثة هي القفزة التي أراد تحقيقها نوري دميراغ ووجيهي هوركوش في تاريخ الصناعات الجوية التركية. حيث في فترة بداية الجمهورية التركية المبكرة افتتح نوري دميراغ ووجيهي هوركوش مصنعاً وأنتجوا فيه الطائرات، وحتى أنهم وصلوا لمرحلة تصدير هذه الطائرات. ولكن في واقع الأمر تم إغلاق مصنع نوري دميراغ ولم يُسمح له ببيع الطائرات. وأيضاً تم فرض حظر طيران على وجيهي هوركوش. وبعد طائرة Şahit X1 توقفت مغامرة تركيا في تصنيع الطائرات بدون طيار ما يقارب الثلاثين عاماً بسبب هذا الحادث. ولقد استخدمت تركيا الطائرات التي كانت تستوردها من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لتلبية احتياجاتها خصوصاً في مواجهة الإرهاب، وبقي ذلك إلى أن بدأت استخدام طائرتها المسيّرة المسلحة المحلية. إذن، ما الأشياء التي حدثت خلال هذه العملية؟ وما هي النتائج التي حققتها الطائرات المسيّرة المستوردة من الخارج؟
المغامرة التركية في استيراد المسيرات (الطائرات بدون طيار) من الخارج:
بعد عدم استطاعة المسيرة شاهد (Şahit İHA) الوصول للإنتاج المتسلسل، أصبحت تغطية تركيا حاجتها هذه من الخارج حديث الساعة آنذاك. حيث قامت تركيا بشراء المسيرات Gnt- 750 الأمريكية، وقد بقيت هذه المسيرات في المستودعات لمدة طويلة. ولكن لقد كان العامل الأساسي الذي سرع من استخدام تركيا لمسيراتها المحلية ومن ثم دفعها لاعتمادها على الإنتاج المحلي هو المسيرات الإسرائيلية هيرون (Heron).
إن أكبر مشكلة للمسيرات الإسرائيلية (Hero)، هو ما ظهر بالتزامن مع مقولة وزير دفاع تركيا نور الدين جانكلي في عام ٢٠١٨ حيث قال: "لقد قمنا بشراء ١٠ مسيرات (Heron)، وقد قام بعملية استخدام تلك المسيرات المهندسون الذين استقدمناهم من إسرائيل، فقاموا هم بصنع الاستخبارات اللازمة لأجل ذلك. فاكتشفنا فيما بعد أن تلك العمليات الاستخباراتية إنما كانت خاطئة، وأننا قمنا بقصف صخور الجبال".
لقد قامت تركيا مرتين في عامَيْ ٢٠٠٨ و ٢٠٠٩ بإرسال مكتوبين للولايات المتحدة طالبة منها أن تبيعها مسيرات MQ-9 Reaper، ولكن الولايات المتحدة ردت بأنه يجب أولاً موافقة الكونغرس، وقد قامت فعلاً ببدء تصويت لذلك. ولكن بعد ذلك وفي عام ٢٠١٦ أعلنت تركيا للولايات المتحدة بأنها لم تعد بحاجة للمسيرات الأمريكية. لأن تركيا الآن بدأت بتشغيل مسيراتها المحلية القومية.
لماذا تزعج المسيرات التركية الولايات المتحدة؟
لقد نجحت تركيا في تصدير هذه الأنظمة لعديد من الدول في وقت قصير، فقد بدأت بولندا وأوكرانيا وتونس وأذربيجان وقطر والسعودية وليبيا باستخدام هذه الأنظمة بشكل فعلي، وكانت بولندا آخِر المشترين لها. ويعد تصدير هذه الأنظمة لبولندا مهماً جداً، لأنه أول تصدير لها لدولة أوروبية. وإنه من أهم الأسباب التي جعلت المسيرات التركية تتقدم بهذه السرعة، هو أنها أثبتت نفسَها في ميادين الحرب.
وأخيراً قام ٢٧ عضواً من مجلس الشيوخ الأمريكي بإرسال كتاب لوزير خارجية الولايات المتحدة أنثوني بلكن، يطلبون منه منع تركيا من تصنيع وتصدير الطائرات المسيرة والطائرات المسيرة المسلحة، بحجة أن تركيا تثير القلاقل في المنطقة من خلال هذه المسيرات. إذن فما السبب الحقيقي وراء انزعاج أمريكا من هذه الأسلحة؟
أولاً، لقد كان ملفتاً للنظر ما كان في إدلب من تحطيم الطائرات المسيرة والطائرات المسيرة المسلحة التركية للطائرات الحربية المصنعة من قِبل روسيا. وأيضاً بعد ذلك ما كان من أداء هذه المسيرات تركية الصنع من مساهمتها في تغيير مجرى الحرب لصالح أذربيجان في مدة وجيزة. خصوصاً ما حدث في هذه الجغرافيا من تدمير المسيرات التركية الطائرات الحربية المصنوعة من قِبل روسيا، كان السبب في جذب انتباه الأوروبيين أكثر لهذه المسيرات. ولقد قام وزير الدفاع البريطاني بان واليس (Ben Wallace) بضرب المثل بالمسيرات التركية بيراكتار تي بي ٢ Bayraktar) TB2) في تقرير جهزه بنفسه حيث قال: "في حين أن الطائرات المسيرة التركية في طريقها لتصبح قوة عظمى، يجب على الأوروبيين أن يخجلوا من كونهم نائمين". من ناحية أخرى، ما فعلته هذه الأنظمة من تحطيمها للكثير من الدبابات في إقليم كاراباخ إذ جعلت العالم يتساءل فيما إذا ظل هنالك داعٍ لوجود الدبابات، فكان ذلك سبباً في تغيير إستراتيجيات الحروب. ولقد قال رئيس مجموعة الحرب غير المتناظرة في الجيش الأمريكي السابق ألباي سكوت شاو (Albay Scott Show) في مقالة له بمجلة السياسة الأجنبية: "لقد قامت المسيرات المسلحة التركية بتعطيل نظام دفاع أرمينيا الجوي وقواتها المدرعة الثقيلة في إقليم كاراباخ، ولهذا أُجبرت الدول المتقدمة على تحديث تقنياتها الحربية التي لم تعد ذات فاعلية كما كانت قبل ذلك". حتى على المستوى العالمي قد تم الاعتراف بتقدم المسيرات التركية المسلحة، وقد سلطت المجلة الأمريكية المشهورة فوبرس (Fobres) الضوء بكتابتها على ما وصلت إليه أنظمة المسيرات التركية والصينية، حيث ذكرت أن المسيرات التركية قد أدهشت العالم، وذكرت: "ستكون الأيام القادمة صعبة على أعداء تركيا".
هذه التصريحات بحد ذاتها كافية لترينا السبب الحقيقي وراء انزعاج أمريكا من المسيرات التركية. فتركيا بطائراتها المسيرة وطائراتها المسيرة المسلحة تعطي منحىً جديدا لسير الحروب وتتقدم لتصبح قوى عظمى. بالإضافة لكون تركيا تصدر مسيرتها للعالم وبذلك ستصبح منافساً جديداً لأمريكا في سوق الأسلحة. وهذا هو السبب الحقيقي وراء قيام الولايات المتحدة بتقييد التجارة على تركيا بطرق مختلفة.
وأيضا بعدما تعاقدت تركيا مع "إلون ماسك" لتصنيع القمر الصناعي 5B، تحاول الولايات المتحدة الضغط على ماسك لمنعه من تصنيعه وإطلاقه، وذلك لأن هذا القمر الصناعي سيساعد تركيا في تشغيل نظام المسيرات الجديد تي بي (TB3) الذي تسعى تركيا لتصنيعه.
أما السبب الآخر وراء انزعاج أمريكا من تركيا، فهو زيادة تركيا لنفوذها في أوروبا وشمال إفريقيا والقوقاز من خلال مسيّرتها ومسيّراتها المسلحة، وهذا آخِر ما رأيناه كان في أوكرانيا، حيث طلبت أوكرانيا المساعدة من أمريكا ولكن أمريكا ترددت تحفظاً من روسيا، فقامت تركيا بإظهار دعمها من خلال بيعها المسيّرات والمسيّرات المسلحة لأوكرانيا. وهذا مما أرشد دولة أخرى واقعة تحت التهديدات الروسية والتي هي بولندا، إذ اختارت بولندا أيضاً تركيا لشرائها منظومات الطائرات المسيّرة والطائرات المسيّرة المسلحة، وبهذا تكون بولندا أول الدول الأوروبية شراءً لهذه المنظومات من تركيا. وبذلك ستقوي تركيا نفوذها في أوروبا في السنوات المقبلة، ببيعها لهذه المنظومات داخلها. ولأن هذا مما سيؤدي لضعف سلطة الولايات المتحدة داخل أوروبا شيئاً فشيئاً تثير هذه المسيّرات التركية سخط أمريكا.
وأخيراً لنأتي لادّعاء أمريكا والذي ادَّعته بقولها "تركيا تزعزع الاستقرار بالمنطقة بطائراتها المسيرة وطائراتها المسيرة المسلحة". أولاً تركيا بفضل هذه المسيرات حلّت إلى حد كبير مشكلة الـ(بي كي كي PKK) والتي ظلت قائمة لسنوات، وبذلك زادت من أمنها لداخلي. وبعد ذلك باستخدامها لهذه المنظومات في إدلب وشمال العراق، ومنعها الإرهاب القادم من تلك المناطق أحلّت تركيا الأمن في المنطقة إلى حد كبير. فحقيقة انزعاج أمريكا هنا هو أن دولة الإرهاب التي أرادت تشييدها في شمالي سورية انهارت قبل نشوئها. ومنذ عدة أيام خلت، أعلنت حكومة العراق أنها تريد شراء مسيرات بيراقتار تي بي ٢ (TB2 Bayraktar) من تركيا. إذن هذه التطورات مهمة جداً لكون تركيا توسع نفوذها في المنطقة على حساب أمريكا.
وأخيراً ما كان من أهمية مساهمة هذه المسيرات في حرب إقليم كاراباخ لصالح أذربيجان في حل المشكلة التي استمرت ٣٠ سنة، وبذلك حَلّ الاستقرار بفضل دعم تركيا في منطقة من القوقاز كانت غير مستقرة. وأمريكا هنا لم تظهر أي تأثير، هذا مما يرينا أنه دائماً ما تملأ تركيا فراغ القوى الذي تتركه الولايات المتحدة فارغاً. خُلاصة الأمر أن سبب انزعاج الولايات المتحدة، هو أنه على حد سواء فشل سياساتها في منطقة الشرق الأوسط، وما تخسره من نفوذها في بعض المناطق، وهذا كله بسبب المسيّرات التركية.