تشير الإحصاءات الموثّقة دولياً إلى أن ما يقارب نصف الشعب السوري قد هجر البلاد في السنوات العشر الأخيرة نحو أرض الشتات في أصقاع الأرض.
انتشر ملايين من السوريين في دول الجوار، وقطعوا البحار والقفار نحو القارات الخمس بحثاً عن سقف آمِن لا تسقطه البراميل المتفجرة على رؤوسهم، وعن لقمة عيش كريمة غير مغمّسة بالذل الذي عانوه في ظل حكم الأسد الابن الذي لا يفترق عن الأسد الأب في مستويات القمع والتضييق على الناس إلا بما تهيّأ له من الرعونة السياسية والغياب الكامل للمسؤوليات المترتبة على رأس الدولة في تعاطيه مع الملفات الداخلية والدولية الأكثر تعقيداً، الأمر الذي انتهى بسورية الغنّاء ابنة التاريخ والحضارة والنعمة إلى بقعة جرداء ما فيها سوى "الرمل والموت" كما وصفها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
أما روسيا فتسعى بكل أدواتها الممكنة لإعادة اللاجئين السوريين إلى الداخل لتباشر فوراً فتح ملف إعادة الإعمار الثمين، يحدوها الأمل بنصيب الأسد منه، بعد أن استثمرت سياسياً وميدانياً بسخاء على امتداد سنوات الحرب، ودعمت استمرار نظام الأسد عسكرياً على الأرض ودبلوماسياً في المحافل الدولية، بانتظار أن تزفّ ساعةُ الحصاد العظيم من عمليات إعادة إعمار بلد محطّم عن بكرة أبيه قد تفوق قيمتها التقديرية التريليون دولار وفقاً لدراسات مؤسسات مالية معتمدة.
بدوره النظام السوري الذي لا يكترث إلا لاستمراره في الحكم مهما كلّف الأمر من خسائر بشرية ومادية، تُعتبر عملية الإعمار فرصته الذهبية لإعادة تدوير شرعيته المتهالكة تحت ضربات المقاطعة العربية والدولية، وكذا تمكين قبضته على خِنَاق البلاد من جديد بعد أن أوهنتها سنوات الاقتتال والانقسام المجتمعي أفقياً بواسطة التطييف السياسي بين موالٍ ومعارض، وعمودياً في ظل غياب الأمن وانتشار السلاح وفوضاه وشحّ الضرورات الأساسية للعيش اليومي من خبز ودواء وكهرباء وتفاوُت الحال المعيشي بحيث ازداد الفقيرُ فقراً وتاجرُ الحرب ثراءً.
أما المساعدات الإغاثية والمنح الأممية العاجلة التي كانت تدخل عَبْر المعابر الواقعة تحت سيطرة النظام، فكان يتحكّم بتوزيعها بصورة انتقائية لمكافأة الموالين له، بينما يمنعها عن المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بهدف ضمان استمرار تبعية الموالين من طرف، وتقويض أية محاولات لتأسيس منظومات سياسية بديلة ومستقلة بين صفوف الفئة الصامتة في المناطق التي يسيطر عليها من طرف آخر.
وهكذا تبدو محاولات موسكو في الفصل بين الإنعاش الاقتصادي والشروع بإعادة تأهيل البنى التحتية التي خرّبتها الحرب، وبين عملية انتقال سياسي متكاملة، غير ممكنة البتة في الحالة السورية. كما لا بد للانتقال السياسي أن يتزامن مع تحقيق مستوى مقبول من العدالة الإنسانية والمصالحة المجتمعية بما يعزز السير نحو سلام مستدام يتلو حرباً قاسية ومكلفة على السوريين جميعاً مهما تخالفت انتماءاتهم وولاءاتهم السياسية.
السلام أيضاً يرتبط بعودة كل من انتُزع من أرضه ومنزله عنوة واضطر إلى الخروج من البلاد هرباً بحياته إلى مصير مجهول.
وليس ملف اللجوء السوري ببعيد عن أنظار المنظومة الأممية التي تراقبه عن قرب وتضع شروطاً عادلة ومتوازنة لعودة طوعية وآمِنة وكريمة للاجئين، لا سيما أن ملايين منهم قد وصلوا إلى أوروبا والأميركيتين، وأصبحوا يتمتعون بحقوق مدنية كاملة، وبعضهم حصل فعلاً على جنسيات دول اللجوء وبنى حياته الخاصة ومن المستبعد أن يعود إلى سورية قبل تحقيق استقرار كامل فيها وانتفاء أسباب مغادرته لها.
في حال لم تتحقق هذه الظروف، التي هي مطلب سوري ودولي في آنٍ، فإن أية محاولة لإعادة اللاجئين والشروع بإعادة الإعمار ستغدو سلاحاً جديداً بأيدي الدول صاحبة النفوذ والسطوة العسكرية على الأرض، ما سيعزّز من قدرتها على تثبيت مكاسبها من الحرب بدلاً من السير حثيثاً باتجاه بناء السلم الأهلي.
تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سورية الذي صدر مؤخراً يشير إلى أن البلاد غير صالحة لعودة اللاجئين الآمنة والكريمة بسبب تصاعُد القتال والعودة إلى العنف.
اتخذت اللجنة من أحداث درعا البلد الأخيرة التي انتهت بتسوية كان عرّابها الطرف الروسي إثر حصار خانق فرضه النظام وميليشياته الإيرانية الرديفة ترافق بقصف مدفعي كثيف راح ضحيته مدنيون من أطفال ونساء وشيوخ، نموذجاً مثالاً يؤكد عدم صلاحية مختلف المناطق في سورية لعودة اللاجئين في الوقت الحالي، وأن ملف العودة الطوعية يجب أن يبقى بعيداً عن التسييس والاستغلال من قِبل الأطراف المنخرطة في النزاع على الأرض السورية.
وورد في التقرير الأممي ما مفاده أن الأسد الذي باشر ولايته الرابعة لم يدخل في أُطر جدية لتوحيد البلاد أو تحقيق المصالحة، بل على العكس تماماً، إذ تتواصل حوادث الاعتقال التعسفي من قِبل القوات الحكومية وقد وثّقت اللجنة حالات من التعذيب والعنف الجنسي والوفاة أثناء الاحتجاز. ولاحظت اللجنة أيضاً تدهوراً سريعاً في الاقتصاد السوري، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز وزيادة ملحوظة في انعدام الأمن الغذائي.
في ظل ما تقدّم تبدو أية محاولات لإعادة اللاجئين السوريين إلى موطنهم الأم دون تحقيق الأرضية المناسبة لعودتهم الطوعية والسلسة ضرباً من المقامرة في المجهول ستنتهي بأن يطلق فيها المقامر الرصاصة الأخيرة على قدمه.