انتقص رئيس النظام السوري في خطابه بمناسبة يوم المعلم من جيل الشباب، ومن عموم مثقفي اليوم قدرتهم على التحليل، وبالتالي عدم قدرتهم على اتخاذ المواقف الوطنية الصحيحة، وانسياقهم وراء الإعلام المُوجَّه، فثقافة التكنولوجيا الحديثة اليوم، كما قال، تعطي كمّاً كبيراً من المعلومات، لكن المتلقي لا يحللها، فتُؤخذ دونما تمعُّن فيها أو تحليل لها.
ولعله أراد القول: إن تكنولوجيا المعلومات هي ما قاد إلى الربيع العربي، إذ استمع رواده، من غير وعي، إلى المؤامرة الغربية وخضعوا لها.. وذكر أنه في تسعينيات القرن الماضي وما قبله، كان كمُّ المعلومات أقلَّ، لكنَّ التحليل كان أكثر، (ربما يستذكر إبادة الآلاف من أهالي حماة وحلب، دون دراية من أحد، كما فعله مع شباب الثورة السورية وتصنيفه دولياً بالقاتل)، وأظنه أراد القول: إنّ الوضع السوري كان سوياً مع قناة التلفزيون الوحيدة، ونسخة الصحف الواحدة بأسمائها الثلاثة.. لن أدخل في تفاصيل الربيع العربي، وخلفياته المحلية والعربية، وسأبقى في التعليم، وقضاياه كما شرحها.
تحدَّث عن التعليم وربطه بالأخلاق، وأن وزارة التعليم سُميت بوزارة التربية، فلا نفع للتعليم بدون أخلاق والتربية المدرسية تكمل تربية الأسرة إذ تعلم القيم والاحترام.
وخلص إلى أنَّ التربية هي الوطن.. ما يعني، في النتيجة، ومن خلال الممارسة التي عهدها السوريون في مدارسهم، أن الوطن الذي كان، هو حافظ الأسد، وحزب البعث، فوحدهما الدولة: منهاجاً وأسلوب تعليمٍ! ألم تدعُ مدارسنا إلى تقديس هذين الاسمين، من خلال الشعار الذي يردد يومياً وشعار آخر أطلقه حافظ الأسد: “المعلمون بعثيون”، وهو المعلم الأول طبعاً، ومن شذَّ فإما التسريح أو الندب إلى دوائر الدولة الأخرى.. وعلى ذلك كانت أبواب المدارس مشرعة أمام أجهزة الأمن! علماً أنَّ ذلك التقليد لم يكن قائماً زمن الاحتلال الفرنسي، ولا زمن الدولة الوطنية في خمسينيات القرن الماضي لسبب بسيط جداً هو احترام قدسية المدرسة والمعلم على السواء.. أما الكفاءة العلمية لدى المعلم الابتدائي في زمن الأب والابن، فتكفي الإشارة إلى أنَّ معاهد المعلمين وحدها، معفية من شرط درجات امتحان الشهادة الثانوية لقبول طلابها.
وكان راتب المعلم متدنياً إلى درجة أن معظم المعلمين كانوا يبحثون عن أعمال أخرى، وأغلبها لا يليق بالمكانة المعنوية للمعلم الذي بجَّله أمير الشعراء أحمد شوقي.. حتى إن الكثير من المعلمين كانوا يقدمون استقالاتهم، أو إنهم يسعون لتأمين أي عمل آخر، فالمهم لديهم أن يبعدوا عنهم، وعن أسرهم غائلة الفقر والعوز، والتفت بعضهم إلى الدروس الخصوصية. وكل ذلك يجري على حساب الطلاب. ذلك إذا استثنينا ازدحام الطلاب في الصفوف، ونظام الفوجين وفراغ المدارس من أي جانب ترفيهي أو محرِّض على الإبداع العلمي أو الفني.. فالدولة التي تقوم على وحدة الرأي، وترعاها أجهزة القمع، لا يمكنها الارتقاء علمياً وبالتالي النهوض الحضاري.. إن واقع التعليم هو أحد عوامل قيام الثورة السورية.
وهاجم “الرئيس” في خطابه “التعليمي” الغرب، ومجموعة “الإمّعات” (المهجَّرون) الذين يحملون الجنسية السورية، لكنهم لا يحملون روح الوطن.
ولكن لا أعرف كيف تذكر أن ثمة آخرين في الداخل، لا يحملون هموم الوطن.. ربما عنى بهؤلاء الذين يتذمرون مِنَ الأوضاع المعيشية، ونقص ضرورات الحياة.. ولذلك أرادهم أن يقتنعوا بأن من فعل بهم هذا هم هؤلاء الذين توجهوا برسائل إلى الغرب.. وتناسى أنه وضعهم تحت ذل المساعدات، وأنه أخرج نصف سكان سورية لأنهم وقفوا ضد ظواهر القمع، والاستئثار بالسلطة، وقال بأنه يريد جيلاً مبادراً وفاعلاً يبحث عن حلول، ولا يخضع للإحباط.. لكنه تناسى آراء لجان الحوار التي استأنس بها صيف عام 2011 فسمع كلاماً عن الحرية، وتداول السلطة، وتفاقم الفساد، وتجاوُز القوانين، وسرقة المال العام.. إلخ.
وبالمناسبة أتراه “السيد الرئيس” يدرك أن ما ذكرته لجان الحوار عام 2011 يجيء في صلب الأخلاق، رغم أنَّ كل مَن نهب الدولة والمجتمع كان تحت أنظاره بالذات، وثَمّة خيط بينهما “ثنياه بيده”، والمثال ما جرى لرامي مخلوف، وكما حدث من قبل لمحمد حمشو شريك ماهر الأسد؟!
إذاً لم يكن في الداخل أية مشكلة وإن الوضع في غاية الكمال.. أما هؤلاء الذين تظاهروا بمئات الألوف في كل المدن السورية فهم قليلو وعي وتربية.. ولذلك أوكلهم لأجهزة الأمن لتعيد تربيتهم، ثم تنقلهم إلى قبور جماعية.. كما تحدث عن التنوع في سورية، وأن سورية لا تستطيع العيش من غيره.. وذلك كله صحيح، ولكن كيف يكرس ذلك التنوع؟ ذلك ما لم يَقُله.
لكنه ذكَّر بما قد نسيه من حديث التجانس، كما يفهم التنوع في ضوء الواقع السوري أن الديمقراطية، وتداول السلطة، ووجود صحافة حرة، وأحزاب ومنتديات، لا تندرج تحت عنوان التنوع، وأن بقاءه وأبيه من قبله في سُدّة الحكم أكثر من خمسين سنة هو التنوع بعينه، وما هذه الحرب التي شنَّها على الشعب إلا حفاظاً على التنوع الأسدي.. ولا ضير إن ذهب ستمئة ألف سوري ضحية، إضافة إلى تهجيره بمساندة الروس والإيرانيين، نصف سكان سورية، وعدَّهم من قليلي الوعي الذين يرسلون للغرب رسائل.. ولم يَفُت “السيد الرئيس” أن يعرِّج على الحرب الروسية الأوكرانية ويضع عنواناً عن المستند القانوني لتلك الحرب العدوانية التي يشنها الروس.
لكنه لم يذكر أياً منها، يبدو أنه نسي ربما لأنه غير مقتنع، ففضَّل الحديث عن غياب القوانين وعن مصادرة الأمريكان لأموال الروس وغيرهم..
في السابع من كانون الأول من عام 2020 اجتمع الرئيس السوري برجال الدين، وبالداعيات (القبيسيات) في جامع العثمان بدمشق وتحدث أمام الجميع مدة ساعة ونصف عن جوهر الدين، وجلس هؤلاء العلماء والداعيات تلاميذ يتفقهون بالدين لأول مرة ومن جملة ما قاله الرئيس آنذاك:
“عندما نتحدث عن الفكر فاليوم هذا الفكر هو الدين، لأنه يدخل في كل جوانب الحياة، في العقل والعاطفة، والسلوك، وفي الماضي، والحاضر، والمستقبل.. إذاً يكفي أن نخرِّب هذا الفكر لكي نخرّب المجتمع. وهذا الشيء يحصل منذ قرن تقريباً أو أكثر بقليل؟!” ولم يذكر مَن الذي خرَّب الدين “قبل قرن أو أكثر” فرجال الدين الذين ظهروا في ذلك الوقت هم المنورون أو المصلحون ولم تزل آثارهم تُحترم، ويُستنار بها! أتراه يعني الدفعات البعثية التي أرسلها الأسد إلى كلية الشريعة بدمشق ليكون خريجوها مصلحي الدين في المدارس والمساجد؟!
أخيراً أقول: إن كل مَن تابع فيديو الخطابين يرى جيداً، ومن خلال الحضور المنتقى بعناية، أن حقيقة المشاعر بدت غيظاً مكتوماً خلف وجوههم الواجمة.