يأتي ربيع عام 2021 لينهي العقد الأول من الثورة السورية، التي انتفض فيها الشعب السوري ضد نظامٍ يقوده الجناح العسكري في حزب البعث العربي الاشتراكي منذ ما يقارب السبعين سنة وتتحكم فيه عائلة الأسد بمقاليد الحكم في سوريا منذ خمسين سنة عبر حزب البعث أيضاً بعد السيطرة التامة عليه، وتعزيز تداخله بقيادة الجيش والأفرع الأمنية وجميع الدوائر المدنية والحكومية.
وكان حزب البعث حريصاً وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة أن يكرس الصورة النمطية من أنه الحزب المتماسك ذو النواة الصلبة وهو القائد للدولة والمجتمع والذي يحفل بالانتشار الشعبي الواسع.
حزب البعث والذي بقي رسمياً القائد للدولة والمجتمع لخمس وخمسين عاماً بقي في واقع الحال كذلك حتى بعد إلغاء المادة الثامنة التي تنص على ذلك في الدستور السوري في تعديلات شباط/فبراير 2012، ورغم إصدار بشار الأسد فبل ذلك لقانون تشكيل وترخيص الأحزاب إلا أنَّ شيئاً على الأرض في سوريا لم يتغير فعلياً من تحكم حزب البعث بجميع مفاصل القرار الأمني والعسكري والقضائي والحكومي وجميع ممثليات المجتمع المدني، وكانت القرارات السيادية على مستوى الدولة لا بد أن يكون جزءاً منها مكتب الأمن الوطني والذي يقوده اليوم اللواء علي مملوك وهو يتبع بشكل مباشر لقيادة حزب البعث وفي نفس الوقت هو جزء أساسي من المشروع الروسي في سوريا الذي يهدف للتحكم بجميع مفاصل القرار السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والمجتمعي وذلك ضمن استراتيجية من ضمنها تحديد صلاحيات الحزب.
والجدير بالذكر هنا أنه ومن خلال المتابعة بدأت تتوارد معلومات عن الخلافات التي ممكن أن تتطور أكثر داخل حزب البعث، بعد أن أصبح الوجود الروسي عاملاً مهماً في تقليص صلاحيات الدوائر الحزبية داخل مؤسسات الدولة، وبحسب المعلومات المؤكدة فإن صلاحيات حزب البعث تتراجع من خلال خطة أمنية روسية تعتمد روسيا في تنفيذها على الأجهزة والمؤسسات التابعة والموالية لها مثل مكتب الأمن الوطني وإدارة أمن الدولة وعلى جهات في القصر الجمهوري تقوم بالتنسيق المباشر مع السفارة الروسية في دمشق (المندوب السامي الذي يحكم سوريا اليوم بشكل فعلي).
والخطة الروسية تتضمن تقليص نفوذ وتدخلات حزب البعث في الحكومة السورية ووزاراتها لا سيما وزارة الاقتصاد و وزارة المالية و وزارة التجارة الداخلية و وزارة التربية و وزارة التعليم العالي، وما يتبع لهذه الوزارات من المؤسسات والمديريات، وهذه الخطة أثارت خلافات كبيرة واعتراضات من مستويات عليا في الحزب خلال النصف الأول من آذار/مارس 2021.
حزب البعث اليوم يواجه هذه التحديات ليس على مستوى الانفصام بين قاعدة الحزب وقيادته، بل على مستوى اللجنة المركزية للحزب وعلى مستوى رؤساء الأفرع الأمنية وصولاً للشريحة الواسعة من الكوادر في الشُّعَب والفروع في مختلف المحافظات، حيث تخوفات الرافضين للخطة الأمنية الروسية دعتهم مؤخراً للحشد داخل الحزب لضرورة حماية والتمسك بنفوذ الحزب داخل مفاصل الدولة، الأمر الذي ينسجم بشكل كامل مع ما تريده طهران من عدم المساس بشكل أو تركيبة نظام الحكم في سوريا.
بشكل أو بآخر أصبح من المعلوم داخل النظام تقاسم الولاءات في الكيانات والمؤسسات بين المشروع الروسي والمشروع الإيراني، وقد تدرج ذلك ليصبح أكثر وضوحاً بعد عشر سنوات من فوضى المواجهات.
في الحقيقة لقد توافقت الأهداف الإيرانية والروسية بعد التدخل الروسي لإنقاذ الأسد في 2015 حيث لم تستطع إيران وحزب الله ضمان صمود النظام أمام خطر وتقدم الفصائل المسلحة، هذه الأهداف المشتركة بين إيران وروسيا يمكن إيجازها في إحداث التفوق الميداني لنظام الأسد، وإيصاله إلى السيطرة التامة على الخريطة الجغرافية، وبذلك يعلن انتصاره التام عسكرياً ليضع هذا الانتصار على المائدة السياسية ويجني استحقاقاته، مع إدراك روسيا منذ ذلك الوقت أن هناك جملة من التغييرات تفرضها المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية يجب أن يتفاعل معها نظام الأسد، لكن كانت أولوية روسيا هي خوض المعركة وتحقيق الانتصار العسكري قبل أي شيء، في حين كانت ومازالت إيران حريصة على بقاء النظام كما هو دون أي تغيير في تركيبته وطبيعته وسلوكه ومن ذلك سلطة الأفرع الأمنية وقيادة حزب البعث و المبادئ الدستورية كما تم إقرارها في دستور 2012.
لكن الأسد ومن ورائه روسيا وإيران وخلال عشر سنوات من المواجهات لم يصل في النهاية إلى النصر العسكري الذي كانت تريده روسيا ومن معها، حيث كانت هناك تدخلات أخرى من قبل التحالف الدولي ثم تركيا فرضت شكلاً جديداً من المعادلة العسكرية والسياسة؛ وهنا بدأت تظهر ملامح اختلاف الأهداف الروسية عن الأهداف الإيرانية في سوريا، حيث روسيا لا تريد الاستنزاف السياسي والميداني والاقتصادي الذي تريده لها الولايات المتحدة في المنطقة وفي نفس الوقت لا تريد تقديم أي تنازل مجاني في سوريا، وبذلك كانت بشكل مستمر جاهزة للتواصل والتفاوض مع مختلف الأطراف الداخلية والخارجية في سوريا، بينما إيران ترى سوريا جزءاً مهماً في مشروعها في المنطقة ولا يمكن تقديم أي تنازل فيه ولذلك لا تستطيع تقديم أي مرونة في المفاوضات سواء في القضايا الداخلية ومع الأطراف المحلية كما هو الحال في ملف مناطق التسويات والمصالحات أو على مستوى المسار السياسي الإقليمي والدولي والذي يتجه أساساً لتقليم أظافر مشروعاه في سوريا.
الخطة الأمنية الروسية للتحكم بمواطن صناعة القرار في سوريا تحرص على إعادة الهيكلة الداخلية في حزب البعث خلال النصف الأول من عام 2021، وهي تستهدف شريحة واسعة من الكوادر الحزبية ذات النفوذ والتي لا تثق روسيا بقابليتها للمرونة والمطاوعة مع التغييرات السياسية التي ستقبلها روسيا في المفاوضات المستمرة بينها وبين المجتمع الدولي، خاصة مع استمرار الخناق الاقتصادي والاستنزاف الذي تفرضه الولايات المتحدة على النظام وبالتالي على داعميه، وفي موازي العمل في صفوف الحزب وتغيير النفوذ والصلاحيات هناك عمل ضمن القصر الجمهوري أيضاً لإعادة ترتيب الصف الأول من النظام بما يتناسب وتوجيهات موسكو للسفارة الروسية في دمشق، بحيث تتحقق هذه التوجيهات بمنتهى الدقة وبشكل فوري دون وجود أي عراقيل أو ممانعات، والملاحظ أن الخطة الروسية على مفاصل صنع القرار (وهي السلطة التشريعية بشكل فعلي في سوريا) تهدف إلى التمكين المطلق للسفارة الروسية في دمشق للتحكم الكامل بالسلطة التنفيذية وهي رئاسة مجلس الوزراء ووزاراتها المختلفة، وكذلك الأمر على مستوى المؤسسات العسكرية الرسمية والرديفة لكن هناك المعوقات أمام موسكو أكبر لا سيما مع استمرار التخوفات والتحديات الأمنية في الكثير من المناطق على الخارطة السورية.
في النهاية فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يواجه اليوم إعادة تشكيل قد يشمل الكثير من الكوادر والقيادات كما هو في عداد إعادة تعريف لدوره وحضوره ونفوذه في سوريا وقد يؤدي ذلك إلى تفكيكه وإضعافه، لتبقيه روسيا بعد ذلك شريكاً لأحزاب سياسية أخرى تدعمها وتصنعها، مرجعيتها السفارة الروسية في دمشق التي ستنقل لهم توجيهات موسكو، وستستغل روسيا الضغوطات الدولية والإقليمية والداخلية على الدور الإيراني في سوريا لمنعه من تقديم المنافسين السياسيين بذات القوة والنفوذ.
وبذلك تكون الثورة السورية في عامها العاشر نهاية فصلٍ أسودٍ في تاريخ سوريا، حيث أدت إلى تفكيك دولة الاستبداد وحزبها الحاكم.