نداء بوست- تحقيقات سياسية- خاص
بدا الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، أكثر شجاعة من غيره من زعماء العالم المجتمعين في نيويورك خلال خطابه الذي ألقاه، يوم أمس الثلاثاء، في الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 77، حين اختار لكلمته ألا تكون خالية من ذكر القضية السورية ومعاناة الشعب السوري.
بالتصاق الدوحة بالقضايا العادلة للشعوب شرقاً وغرباً، مع حفاظها على مصالحه الإستراتيجية، تقدّم نموذجاً في العمل الدبلوماسي يبدو نموذجاً في منطقة الشرق الأوسط القائمة على التجاذبات والاستقطاب الشديد، وهي فلسفة سياسية صعبة على أصحابها في الواقع، ولها ضرائبها واستحقاقاتها.
ومنذ الأيام الأولى للربيع العربي، تأمّلت الدوحة المشهد برهة سياسية وجيزة، حاولت فيها دفع الأنظمة العربية التي ثارت عليها شعوبها إلى اللجوء للحكمة والتعامل بمسؤولية مع مطالب الشعوب العادلة، وحين جاء الجواب بالرفض انحازت قطر إلى جانب الشعوب.
دولة صغيرة ذات أثر سياسي وإنساني بارز وكبير، هكذا يراها العالم، ورغم تعرُّضها لمحاولات عديدة هدفت إلى تحجيمها وتقليص طيفها ودورها، إلا أنها واصلت منهجها دون تعثُّر ودون تشويش.
انتقد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ذلك الخذلان الذي قابل به المجتمع الدولي معاناة الشعب السوري، وأشار إلى عجزه عن محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، والجميع يعرفهم وقد وثقت جرائمهم المنظمة الدولية الكبرى ومعها كافة المنظمات الحقوقية والإنسانية حول العالم.
فلماذا بقيت الأسرة الدولية صامتة؟ لقد كان على أحد أن يسأل هذا السؤال في وجوه ممثلي دول العالم، فلا مبرر ولا ذريعة يمكن لها أن تجيب على سؤاله الصريح.
قال الشيخ تميم: إن ”المجتمع الدولي عجز عن محاسبة مجرمي الحرب في سورية على ما ارتكبت أيديهم، وإمعاناً في الخذلان أصبح البعض يسعى لطي صفحة مأساة الشعب السوري دون مقابل”، مشيراً إلى ما سُمّي بمسار التطبيع مع النظام الذي أمعن في الوحشية بصورة أعادت الإنسانية خطوات إلى الوراء، وكشفت فشل المزاعم القائلة: إن هناك قانوناً دولياً ينظم علاقات العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أمير قطر ينتقد خذلان العالم للشعب السوري ومحاولة طي مأساته دون مقابل
يدرك أمير قطر أن القضية السورية هي أكثر القضايا في العالم قدرة على إظهار التناقض بين ما تدّعيه الدول التي ترفع شعارات نشر الديمقراطية والتبشير بمبادئ حقوق الإنسان، وبين جديتها في تطبيق تلك الدعوات حين توضع على المحك.
الأمير الشاب الذي يقود نهضة في بلاده مهما كانت درجة حداثتها إلا أنها تبقى تتمسك بأصالة وقيم العرب والمسلمين، تساءل عن تجاهل التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري المنكوب دون حل يحقق تطلعاته ويحفظ وحدة سورية والسلم والاستقرار فيها.
بعد أكثر من نصف مليون شهيد، ومثلهم من المفقودين، وملايين المهجّرين واللاجئين، كيف يمكن طيّ صفحة ما فعله الأسد وكأنه لم يكن؟ هذا ما أراد قوله الشيخ تميم، لأن ما يعيشه العالم اليوم من تصدّع في أوكرانيا وشرق أوروبا تحت التهديدات الروسية والمخاوف من تكرار النسخة الأوكرانية بين الصين وتايوان، يشي بأن الصمت على ما فعله الأسد قد غيّر القيم الإنسانية بالفعل، وترك الحبل على غاربه لمن يشاء أن يكسر القانون الدولي. وهذا ما فعله بوتين بغزوه البلد الجار، وما يفعله اليوم من ضم لأجزاء من أوكرانيا معتمداً مبدأ الاحتلال والقضم والتوسع، وهي أفكار وسلوكيات تعود إلى زمن ما قبل تأسيس مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة التي يجتمع فيها قادة الأرض هذه الأيام.
إن الدعم الكبير الذي قدّمته قطر للقضية السورية، مهما اختلف عليه المحللون، ومهما كالوا إليه من نقد، يبقى يشير إلى تمسّك هذا البلد العربي بالمطالبة بحق السوريين في العدالة، وحتى الحل السياسي الذي وافقت عليه قطر ودعت إليه مثلما فعلت غالبية الدول المعنية بالشأن السوري، تعرف قطر أنه يتم التلاعب به منذ فترة، وتحويره تدريجياً حتى إيصاله إلى ما أسماه الشيخ تميم” اختزالاً“ للقضية السورية بما تسمى ”اللجنة الدستورية“.
وقد يبدو للبعض أن قطر كما فُهم من حديث وزير خارجيتها السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، كانت في تنافس مع غيرها على سورية، غير أن موقف الشيخ تميم اليوم في الأمم المتحدة يظهر بوضوح أن الدوحة تصغي إلى أصوات السوريين جيداً، وأن مصالحها مهما كانت، فإنها تأتي تالياً بعد الاستجابة للرأي العام السوري الذي بدأ يرفض محاولة روسيا وإيران ونظام الأسد التلاعب بالمسار السياسي للقرار 2254. ولذلك قال الشيخ تميم ”لا يجوز أن تقبل الأمم المتحدة أن يتلخص المسار السياسي في ما يسمى اللجنة الدستورية تحت رعايتها”.
ويؤكد الدكتور يحيى العريضي في حديث لـ ”نداء بوست” أن كلمة الشيخ تميم منسجمة تماماً مع الموقف الثابت لدولة قطر تجاه القضية السورية، منذ بدايتها، وهي مؤخراً وللتو كانت الحاجز الأساسي إلى جانب المملكة العربية السعودية في الحؤول دون إغلاق الباب على الحق السوري، ونسيان حقوق السوريين والسكوت عن جرائم النظام السوري، وإعادة هذه المنظومة إلى جامعة الدول العربية.
وأشار العريضي إلى أن قطر إلى جانب السعودية حالتا دون حدوث ذلك وهذا الموقف كبير ويحسب لهما.
في السياسة لا توجد كلمات بلا مبرر، وحين تمت كتابة خطاب الشيخ تميم، تم وضع نقاط مفصلية الهدف منها إرسال رسائل واضحة لمن يحاولون الآن تحت الطاولات إعادة تأهيل الأسد، والقضاء على المسار السياسي، ومن بينهم أولئك الذين تسعى روسيا من خلال الاجتماع معهم في موسكو مؤخراً إلى نقل المفاوضات إلى دمشق في حضن الأسد نفسه ليكون إعلاناً نهائياً عن موت الحل السياسي والقرارات الدولية وتفاهم جنيف.
الدرس السوري
أحسن الشيخ تميم في وصف القضية السورية بأنها ”درس“، حين قال: ”تقدم القضية السورية درساً مهماً بشأن عواقب غياب الرؤية البعيدة المدى لدى قوى المجتمع الدولي الفاعلة حين يتعلق الأمر بمعالجة معاناة الشعوب من الطغيان اللامحدود والفقر المدقع والحروب الأهلية قبل أن تصبح ظواهر مرافقة لها مثل اللجوء هي المشكلة التي تحتاج إلى حل”.
ما هي القوة التي يملكها المجتمع الدولي لتطبيق رؤيته حول القضايا العادلة والقانون الدولي؟ حتى الآن يقول لنا الدرس السوري إنها معدومة. بل ما هي الرؤية الدولية العامة لكيفية معالجة تلك الارتكابات والخروقات الكبيرة للقانون الدولي والتورط في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ الدرس السوري يقول: إنه لا توجد أية رؤية جاهزة، وهذا ما تم اختباره بالفعل في أوكرانيا بعد سورية.
يقف المجتمع الدولي عاجزاً عن معالجة معاناة الشعوب من الطغيان اللامحدود والفقر المدقع والحروب الأهلية، بل إنه تساهل مع مسؤولياته تلك حتى وصل البل إلى ذقنه كما يقول المثل الشائع، وبات هو بمواجهة أزمة لم يكن يحسب لها حساباً تتمثل في أزمة الطاقة ونقص إمدادات الغاز وشتاء صعب ستواجهه أوروبا والغرب عموماً إن لم تجد حلولاً، بعد أن تركت المشكلة تتفاقم.
رسائل في اتجاهات محددة
نقطة ثانية تسجّل لأمير قطر، فهو وفي الوقت الذي تعتبر فيه قطر أحد أبرز مصادر الطاقة العالمية، والمستفيد الأول من الأزمات إن أرادت ذلك، لا يتجاهل أن حلولاً استباقية كان يمكن لها أن تنقذ شعوب العالم من الفاقة ومن فجائع يمكن أن تتحول إلى ظواهر.
ووسط تصاعُد النبرة العنصرية والحديث عن طرد اللاجئين السوريين من بلاد الجوار، تركيا ولبنان وغيرها، يطالب أمير قطر الأسرة الدولية بالتفكير في الأسباب التي دفعت هؤلاء الملايين إلى ترك بلادهم، ويناشد العالم الالتفات إلى جذور المشكلة التي ما زالت قائمة، محذراً من أن تلك المسببات يمكن لها ”أن تطرق آثارها أبواب بلادنا”، وقد سبق له وأن بيّن الأربعاء الماضي، خلال حوار مع مجلة “لو بوان” الفرنسية أن تطبيع الدول العربية مع النظام السوري أمرٌ غير عقلاني في ظل استمرار المسبب للقطيعة مع الأسد. قال الشيخ تميم وقتها: ”سبق وقلت إنه يحقّ لكل دولة أن تقيم علاقات مع أية دولة تختارها، لكن جامعة الدول العربية قررت استبعاد سورية لسبب وجيه، وهذا السبب ما زال موجوداً ولم يتغير”، معبّراً عن استعداد قطر للانخراط في أي مفاوضات من شأنها أن تحل السلام في سورية، وقال: ”أنا مستعدّ للمشاركة في أي محادثات في حال كانت لدينا عملية سلام حول مستقبل سورية ومطالب شعبها، لكن هذا ليس هو الحال في هذه اللحظة”.
أمير قطر عن بشار الأسد: لا يمكن القبول بقائد ارتكب المجازر ضد شعبه وهجَّر الملايين
في هذه اللحظة التي تقرؤها قطر جيداً، لا توجد أي نية لإحلال السلام في سورية، إنما بوجود الأسد وبنية نظامه الأمنية الحالية ستكون دوامة العنف مستمرة، مستفسراً بوضوح ”لماذا نقبل بأن يقوم قائد بارتكاب المجازر ضدّ شعبه وطرد ملايين اللاجئين من بلاده؟”.
وهنا يشير الدكتور العريضي إلى أن ”قطر حتى الآن منسجمة مع نفسها، وهي تدرك جوهر القضية السورية بأنها قضية شعب مقابل منظومة مستبدة”، مستبعداً أن يتغير هذا الموقف خاصة وأن هناك عدة عوامل مؤثرة في الملف السوري كالموقف السعودي والموقف الأمريكي.
رسائل الشيخ تميم لم تكن موجهة فقط للأسد وداعميه والأقطاب الدولية الكبرى، وهي في جانب منها رسالة تطرق أبواب أقرب حلفاء قطر إليها؛ تركيا التي تزايد الحديث فيها عن مصالحة محتملة مع النظام السوري، أو لقاءات وتفاهمات أبعد من التنسيق الأمني. وهنا تستخدم قطر قوتها الناعمة في الإيحاء لشركائها بأن موقفاً مثل هذا لن يكون موافقاً للرؤية السياسية القطرية وفيه من بلاغة ما قاله الأمير ما يكفي.
أما حماس التي دعمتها وتدعمها قطر في كافة مراحل صراعها مع الإسرائيليين، فهي إحدى الجهات المعنية برسائل الشيخ تميم، فاندفاعها نحو نظام الأسد رغم كل التحذيرات والمناشدات من جهات إسلامية وعربية، ورغم الغطرسة التي أبداها النظام نفسه حيالها ووضعه شروط مهينة لها من أجل القبول بدخولها بيت الطاعة من جديد، جعلها تبدو معزولة مكشوفة الغطاء تحت تهديد فقدان أصدقائها وداعميها.
وقبل هذا وذاك، فإن قطر التي تتمتع بعلاقة وثيقة مع إيران، لم تسمح للدولة ذات المشروع التوسعي الإمبراطوري أن تهيمن على قرارها السيادي، وفي كلمة الشيخ تميم إعلان يردّ على ما اتُهمت به قطر من قبل بأنها على تنسيق مع إيران وما دفعت ثمنه سنوات من الحصار والمقاطعة، وفي الحالتين أظهرت قطر استقلال قرارها وخصوصية رؤيتها لقضايا العالم والمنطقة.
الخطوط التي وضعها الشيخ تميم في كلمته، ليست مجرّد تصريحات في مناسبة دولية، بل هي خطوط حمراء تضعها الدوحة أمام الحليف قبل الخصم.
وفي هذا الإطار، أشار الدكتور العريضي إلى أن قطر أقرب إلى مصالحها، وهي على أعتاب تنظيم حدث دولي متمثل بمونديال كرة القدم 2022، وسبق أن تعرضت لضغوطات من الدول المحيطة وتبدل في مواقف الجوار تجاه القضية السورية كما فعلت الإمارات، وفي نهاية المطاف حافظت قطر على السياسة التي تناسب توازناتها ومصالحها.