طويلة قصة السوريين مع لبنان. لبنان الجميل قطعة من جسد وطنهم الأم. آخر سفارة فُتِحت فيه كانت سفارتهم؛ فبين الجسد وقطعة منه، لا يوجد سفارات. العائلة الواحدة، جزء منها في سورية، وجزؤها الآخر في لبنان. منذ مائة وأربعين عاماً، ترك جدي بيته لإخوته في بلدة “بيصور- منطقة عاليّ” اللبنانية، وأتى إلى سورية. صوت “فيروز” صدَح أولاً من إذاعة دمشق الفيحاء.
عندما غزته إسرائيل، ما يقارب نصف سكانه لجؤوا إلى سورية. كان لهم صدارة بيوت وقلوب أهلهم السوريين. وعندما احتاج الفلسطينيون جبهة لمقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كانت حدوده هي الجبهة، وكانت قواه الوطنية التقدمية العضيد لفلسطين وأهلها.
ذلك كان حتى سبعينيات القرن الماضي، عندما تم تكليف حافظ الأسد بوضع اليد على لبنان، والقضاء على المقاومة الفلسطينية، حراسةً لحدود الكيان الصهيوني؛ ليتبعها في أول الثمانينيات زرع سرطان ما سُمّي “حزب الله”، بالتعاون مع ملالي “قُم” ومشروعهم الخبيث، ليس فقط في لبنان بل للمنطقة العربية ككل. ذلك استلزم إزاحة “سعد حداد وأنطون لحد”، كوكلاء لتنفيذ مهمة الحراسة، وجعل حزب الله الحارس والحاكم بأمره في لبنان؛ وكل ذلك تحت يافطة “المقاومة والممانعة”، التي حمت حدود الكيان الصهيوني، بعد أن أخذت بطريقها أي مقاومة فلسطينية، وطردت عرفات، بعد أن استجلبت احتلالاً إسرائيلياً، وأخرست أي حالة وطنية مقاومة، وبعثرت مكونات لبنان أكثر، وجعلت من الدولة متصرفية إيرانية أسدية.
كل ما ومَن وقف في وجه مشروع الاستعباد الأسدي-الإيراني للبنان تمت تصفيته أو إخراسه تنفيذاً لمهمة حماية حدود الكيان الصهيوني من الشمال عبر الجنوب اللبناني والجولان. في التصفية ابتداءً من كمال جنبلاط مروراً بشخصيات وطنية كثيرة بمن فيها رفيق الحريري وصولاً إلى تفجير الميناء اللبنانية. وفي الإخراج عبر إغراء استخدام ميشيل عون وشاكلته إضافة إلى أدوات رخيصة جشعة تعمل بالتعاقد مع محور الاستعباد والاستبداد و”المقاومة”. وبالطبع تبقى هناك أصوات يعتبرها المحور إياه “نشازاً”؛ ومقدوراً عليها؛ تتمثّل بمن لا زال مقاوماً لهذه الهيمنة، ولأصوات موجوعة وطنية ظهرت في الانتخابات اللبنانية الأخيرة.
لم يكن مستغرباً أن يكون “حسن نصر الله” وميليشياته أول المتصدين لثورة الحرية السورية على منظومة الاستبداد شريكته في دمشق عام 2011. فإذا كانت الرصاصة الأولى في صدر متظاهر سوري قد أتت من مخابرات الأسد، فالثانية حتماً من جعبة “نصر الله”. وإذا كان قرار نظام الأسد مواجهة انتفاضة السوريين السلمية بالحديد والنار قد استند إلى رأي ومدعمات، فتلك أتت من الضاحية ومن “قُم” الملالي؛ فمشروع شركاء الاستبداد والاستعباد في خطر. وإذا كان هناك من نزوح سوري من الوسط والغرب السوري إلى لبنان، فمجازر ميليشيات نصر الله وملالي طهران’ (مطعمةً بما أفرزته “كداعش”) كانت وراء ذاك النزوح.
مع استطالة المأساة السورية، وتعفن جرح النزوح السوري، وتحوُّله إلى أداة للمساومة والمزايدة ابتداءً من تمثيلية مؤتمر “بوتين” لإعادة اللاجئين في دمشق، إلى تضييق الحياة على النازحين خاصة في لبنان، إلى تقتير الأمم المتحدة للمساعدة، بعد نهب موظفيها ومَن يبتزهم من سلطات الأمر الواقع النسبة الأكبر من تلك الإغاثات، مروراً بالعنصرية تجاه السوري اللاجئ أو النازح، وصولاً إلى استخدامه ورقة في المماحكات السياسية الانتخابية؛ نسمع صوتاً لانتهازي كنجيب ميقاتي يتطلع لنَْيل رضى حزب الله في رئاسة حكومة لبنان؛ يصرّ على رمي النازحين السوريين إلى أحضان الاستبداد تحت يافطة أنهم متسببون بضائقة لبنان الاقتصادية.
كل ذلك مع أن هؤلاء اللاجئين يشكلون اليد العاملة الرخيصة، من أجل البقاء على قيد الحياة؛ وعبرهم تأتي مساعدات بالمليارات؛ والتي يأكل لبنان والفاسدون في سلطته أكثر من نصفها. بعض هؤلاء النازحين كانوا قد استقبلوا في بيوتهم يوماً لبنانيين نازحين وقت المحن. مع كل ذلك تحول النازحون السوريون إلى مكسر عصا، و”فشة خُلق” لبعض اللبنانيين مسؤولين وموتورين وانتهازيين.
لقد تحوّل السوريون اللاجئون والنازحون إلى أوراق مساومات سياسية. تريد روسيا أن تضغط على الغرب، كي يخفف خنقه لها؛ فتهدد بإغلاق معابر المساعدات لنازحي الشمال السوري. يتدهور الاقتصاد اللبناني بسبب فساد وغباء السلطة، تتوجه السهام نحو اللاجئين السوريين كعبء على لبنان. لنيْل رضى حزب الله ونظام الأسد للوصول إلى رئاسة الوزراء، يرتفع صوت المرشحين بضرورة إخراج اللاجئين السوريين من لبنان. وفي مناطق ودول أخرى، ليس الحال بأفضل؛ فالمعارضة التركية نسيت كل شيءٍ وركّزت على تصفية حسابها عَبْر السوريين.
وبالعودة للتركيز على السوريين في لبنان، حيث يصلهم بقايا مساعدات الأمم المتحدة؛ ويعيشون بلا حماية، وعُرضة لكل امتهان واضطهاد. فما العمل تجاه كل تلك المأساة وعقابيلها؟ وما أقترحه وسأساهم به هو أن تصل يومياً مذكرة لمجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان تشرح واقع الحال؛ وهذا يستلزم أيضاً وضع مؤسسات المعارضة الرسمية هذه المسألة في رأس أولوياتها؛ فلا بد من بيانات باللغات الحيّة المؤثرة حول أوضاعهم. ولا بد من وقفات احتجاجية واعتصامات وإضرابات، حيث يتواجد السوريون في العالم. تجاه هؤلاء ممنوع الإحباط أو الانكفاء أو اليأس. السوريون غير مغرمين بالتواجد في بلاد الآخرين؛ أعز ما عندهم أن يكونوا على أرضهم؛ ولكن هناك مَن يحول دون ذلك.