منذ أن أُعلن عن انتشار فيروس "كورونا – كوفيد19" أواخر 2019 بدأت أسعار النفط تتراجع بشكل ملحوظ لتسقط من حوالَيْ ستين دولاراً للبرميل إلى أقل من 20 دولاراً في الربع الثاني من 2020 بل إن بعض عقود النفط أُغلقت على أسعار أدنى بكثير متجاوزة الصفر ومتخلية عن إشارتها الموجبة، كان ذلك يعود لتراجُع الطلب على النفط نتيجة لعمليات الإغلاق والحظر التي راح العالم يشهدها، والسياسة التنافسية بين الدول الكبرى المنتجة للنفط التي رفعت المعروض النقدي لتغطية نفقاتها وكسب حصص أكبر في الأسواق، كما دعم هذا الأمر توجُّهات الدول نحو الطاقة النظيفة والحياد الكربوني.
هكذا ولنفس الأسباب ظلت الأسعار دون مستوى 50 دولاراً لكل برميل طيلة 2020، ومع تحسُّن الطلب وعودة الإنتاج عاد السعر للارتفاع ليصل إلى قرابة 80 دولاراً مع نهاية 2021، وما هي إلا أيام على بدء 2022 حتى راح برميل النفط يمد رأسه نحو مئة دولار على أمل أن يرى مستويات جديدة… كل ذلك يحصل والفيروس الذي تسبب بتراجُع السعر في 2020 يرتدي حللاً جديدة ويسرح ويمرح بمستويات لا تقل عن مستوياته السابقة، فلماذا لا تنخفض أسعار النفط في هذه الحالة؟ ولماذا تبقى فواتيرنا الخاصة بالتدفئة والطبخ والتنقل عالية إلى مستويات قد لا تتحملها مداخلينا؟
قد لا يكون ثَمّة شيء غريب في زمن كورونا، الحدث نفسه يتكرر ليعطي نتائج مختلفة فـ "كورونا" فيروس أصاب الملايين وترك بعضهم أقوى وبعضهم الآخر أضعف كما أودى بحياة الملايين، أفلست شركات وأغلقت أخرى أبوابها، بعض الشركات تضاعفت ثرواتها مرات عديدة بفضل "كورونا"، يبدو أن أشياء كثيرة يمكن أن تحصل في زمن هذا الفيروس، شركة "زووم" ذات البرنامج الشهير الذي أصبح يرافقنا على جوّالاتنا كتطبيق رئيسي لا يمكن الاستغناء عنه تبلغ قيمتها أكثر من مئة مليار دولار أمريكي بدافع من انتشار الوباء، وارتفعت إيراداتها إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار وهو ما قد يساوي الدخل المحلي لبعض الدول الصغيرة في العالم، شركة أخرى هي "كراود سترايك" التي تمتلك خدمات أمن إلكتروني فاقت قيمتها 50 ملياراً نتيجة زيادة الطلب على منتجاتها في وقت الأزمة فيما ارتفعت قيمة شركة "سناب شات" إلى أكثر من 75 ملياراً!. على جانب آخر فإن آلاف شركات السياحة والطيران والخدمات تعرضت لخسائر فادحة، شركة "فيرجن" الأسترالية خسرت 5 مليارات دولار أمريكي فيما عانت "أفيانكا" الكولومبية من خسائر بقيمة تزيد عن 8 مليارات دولار.
في عامين سابقين بدأت الدول الكبرى المستهلكة للنفط بالتوجه السريع للطاقة البديلة وعملت على عشرات المشاريع الخضراء للاستغناء عن النفط وتقول هذه الدول: إن النفط لن يكون هو السلعة الرئيسية لتوليد الطاقة بعد اليوم، فنحن نريد عالماً أفضل وأقل حرارةً وتلوُّثاً، والنفط يُساهم بالأمر، كما أن النفط بات سلاحاً سياسياً أكثر من كونه سلعة اقتصادية، مما ولّد عوامل إضافية لجعل الطلب على النفط أقل من أي وقت سابق وبالتالي تحفيز أسعاره على الهبوط.
هذه الدول تذكرنا كثيراً بمن يحب شخصاً ولكنه لا يقدر على الوصول إلى قلبه فيقول عنه أوصافاً لا يتصف بها، إن معظم دول العالم تريد المزيد من النفط فهو يكاد يكون كل شيء حتى الآن ولم تستطع مشاريع الطاقة البديلة أن تقدم الكثير وتحتاج ربما لعشر سنوات حتى نبدأ الحديث عن تخلٍّ جزئي عن النفط في إنتاج الطاقة ونظام السير والنقل، وعندما انخفضت أسعار النفط بدأت الدول تشتري كميات أكبر وتخزن في كل مكان ممكن، بل إن بعض الدول اشترت النفط وتركته مخزناً على ناقلات النفط في المرافئ فهي تعلم أن عجلة الإنتاج ستدور وستطلب مزيداً من الطاقة، هذه المعرفة والسعي يجعل الطلب على النفط من جديد متحفزاً وكبيراً، وما جرى في 2020 لن يتكرر فالدول المنتجة للنفط أصبحت تدرك أن المصانع لن تتوقف وأن الطلب على النفط سيبقى مرتفعاً في 2022 ولن ينخفض فالعالم اليوم لم يَعُدْ يتحمل مزيداً من إجراءات الإغلاق والحظر.
برميل النفط الذي يحاول مد رأسه إلى مستويات أعلى من مئة دولار مع مطلع 2022 طموح للغاية، كما أن منظره الأسود اللامع وملمسه الناعم علاوة على ما يحمله في قلبه من دفء وحنان يجعل الآخرين منجذبين إليه شركاتٍ كانوا أو دولاً، وهو ما سيجعلنا أمام احتمال أن يستند إلى مئة دولار ليقفز إلى الأعلى بكثير… "فالغالي بيستاهل".
نحن أمام شتاء قارس يحتاج فيه الجميع إلى حبيب دافئ، والحبيب في خطر ولمَ لا؟ فنحن في وسط أزمات تضرب الدول النفطية، أوزبكستان التي شهدت ثورات مع مطلع 2022 والإمارات التي قُصفت مطاراتها والسعودية التي تخوض حرباً لا تُعرف نهايتها والعراق المشتعل أساساً وليبيا التي تكافح من أجل الاستقرار، وغيرها كثير من الدول التي تُؤثِّر الأوضاع فيها على المعروض النفطي العالمي.
في 2022 قد نشهد احتجاباً أكبر للمعروض النفطي ليس كنوع من الدلال وحسب، ولكن لأن مَن قالوا عنه بالأمس إنه لم يَعُدْ بتلك الأهمية والبريق لا يعنون ما يقولونه تماماً، هذا الاحتجاب سينعكس بكل تأكيد على قلوب الناس التي ستُضطر لدفع أثمان أكبر لتراه أو ترى آثاره… وهذا كله سينعكس على الأسعار التي قد تجعل برميل النفط يصل إلى 150 دولاراً وربما أكثر من ذلك بقليل.