نداء بوست- عبدالله العمري- الحسكة
ليس بإمكان أي أحد منا مهما بلغت فصاحته وبلاغة لسانه أن يلخص سنوات الاعتقال أو ما يعيشه المعتقل في زنزانته، لكنه ربما يستطيع أن ينقل جزءاً بسيطاً من مشاعر أحد المعتقلين أو أن يروي قصته بصوت عالٍ بعد سنوات طويلة أمضاها من الصمت والخوف والوحدة حيث يعجز الكلام وتختفي الكلمات، ويحتار المرء من أين يبدأ عندما يسمع ما يعانيه المعتقلون في سجون نظام الأسد وحليفه الأقرب قوات "قسد" من طرق المعاملة الوحشية وفنون التعذيب المختلفة التي يَتَّبِعها الجلادون داخل تلك السجون.
يروي أحد أولئك المعتقلين الذين عانوا الأمرّين داخل تلك السجون حيث يسترجع الأستاذ عيد الظاهر مدرس الشريعة الإسلامية في إحدى قرى ريف "رأس العين" قصة اعتقاله وابن عمه مدرس الحاسوب الأستاذ عبدالله الظاهر واللذان تم اعتقالهما لدى قوات "قسد" في بداية سيطرتها على مدينة "رأس العين" والقرى والبلدات المحيطة بها فقد بدأ لنا بسرد تلك الذكرى الأليمة بحرقة وألم يعتصران قلبه حيث قال لـ"نداء بوست": "عُدْنا من صلاة العشاء بتاريخ 25/1/2015 أي بعد سيطرة "قسد" على المنطقة لمدة عام تقريباً وكان من عادتنا الاجتماع في إحدى الغرف المنعزلة من منزل عمي نتبادل الأحاديث ونناقش أخبار الثورة السورية وفجأة ونحن نجلس في غرفتنا سمعنا أصوات عربات داهمت المنزل، ونزل منها عناصر ملثمون تابعون لـ"قسد" وأحاطوا بالمكان ودخلوا الغرفة وبدؤوا بتفتيشها بالكامل وأخذوا جهاز حاسوب لابن عمي عبدالله كونه كان مدرس حاسوب، وسألوا: مَن منكم يكون عبدالله؟ قال: أنا. ثم سألوا عني واقتادونا وأكملوا طريقهم واعتقلوا شابين آخرين من نفس القرية وهم حجي ومحمد الظاهر ومضوا بنا مكبلي الأيدي ومعصوبي العينين إلى أحد سجونها في المدينة عرفنا فيما بعد أنه سجن "الصناعة" القريب من محطة الكهرباء في الطرف الشرقي للمدينة".
وأضاف في حديثه "تم زجنا بغرفة مظلمة صغيرة وباردة ثم بدأ التحقيق معنا، أخذوا ابن عمي عبدالله أولا إلى غرفة التحقيق القريبة منا وعمّ الهدوء أرجاء السجن من الخوف وهول المشهد، وفجأة سمعنا أصوات صرخات عبدالله فقد بدؤوا بتعذيبه وضربه حاله كحال أي معتقل يدخل سجونهم، فهي طريقة التحقيق لدى "قسد" وجلاديها ولم نعد نسمع سوى أصوات صرخاته وأصوات السياط على جسمه وبعد عدة ساعات اختفى صوته نهائياً واختفى معها أيضاً ولم نرَهُ بعدها إلى اليوم".
كما أشار في حديثه: "بعد ذلك بقليل سمعنا أصوات خُطاهم قادمين وفتحوا باب الزنزانة وأخذوا شاباً آخر يدعى حجي وبدأ تعذيبه بنفس الأسلوب وتعالت نفس الصرخات ثم اختفت بعدها الأصوات وبقينا أنا وشاب آخر لمدة ثلاثة أيام بهذه الزنزانة دون طعام أو غطاء نفترش الأرض في ذلك الجو البارد وبعدها أخذوني للتحقيق وهنا عرفت أسباب الصرخات التي كنت أسمعها من عبدالله وحجي اللذين حققا معهما قبلي، فالجلادون لا رحمة في قلوبهم بدؤوا بضربي على معدتي وصدري بعد أن خلعوا ثيابي بالسياط والأنابيب الصحية على كامل جسدي وبكل ما أُوتوا من قوة وطلبوا مني الاعتراف بأنني تابع لتركيا ولخلايا داعش والاعتراف بمن يتواصل معي ويدعمني، ولم يقف الأمر على ذلك بل بدؤوا بصعقي بالكهرباء، وقالوا لي اعترف كما اعترف أصدقاؤك كي ترتاح واستمروا على هذه الحالة لمدة أسبوع وعندما عجزوا عن أخذ اعترافاتي قاموا بوضعي داخل بطانية وأنزلوني إلى حفرة أشبه بالقبر، وبدؤوا بإطلاق الرصاص الحي فوق رأسي لإرهابي ورموا فوقي التراب حتى غطى كامل جسدي وبدؤوا بتهديدي بالدفن حياً، إن لم أعترف ومن هول ما رأيت وبعد أن أنهك جسدي التعب والألم اضطُررتُ للاعتراف بأني كنت على تواصُل مع عناصر من الجيش الحر".
وأكمل حديثه قائلاً: "عندها قاموا بتصويري وأجبروني على الاعتراف بأنني أتبع خلية إرهابية للجيش الحر كما أسموها وأنهم ألقوا القبض عليَّ وبعدها أبقوني في هذا السجن لمدة 15 يوماً أخرى كنا كل يوم فيها نتعرض لأبشع أنواع التعذيب والقهر وكنا نسمع منهم كل يوم شتائم عنصرية ضدنا وضد كل العرب".
وأشار في حديثه: "تمكنت من التعرف على بعض ممن قاموا بتعذيبي لم –ولن- أنسى أسماءهم؛ أحدهم كان اسمه علاء شيخو وكان يعمل نجار موبيليا في مدينة رأس العين والآخر روجهاد وكان يملك محل بقالة قريب من دوار البريد برأس العين لم أكن أتوقع من أبناء بلدي كل هذا الحقد والكره لنا رغم أننا لم نتعرض لأحد منهم يوماً من الأيام".
وبعد انتهاء التعذيب الوحشي والتحقيق معنا تم نقلنا إلى مدينة "المالكية" أقصى شمال شرق الحسكة لعرضنا على القاضي ومحاكمتنا، وهناك التقيتُ بالعديد من أبناء مدينة "المالكية" المعتقلين في نفس السجن، ومعظمهم من العرب، وطبعا تم معاملتهم بنفس الأسلوب والطريقة، فمنهم كما قال لي من اعترف تحت التعذيب بإدخاله 30 صاروخ سكود إلى "المالكية" وآخر اعترف بأنه نائب لأبي بكر البغدادي والثالث اعترف أنه ينظم عمل مجموعات تستهدف مواقع وعناصر "قسد" في تلك الفترة وأبقونا داخل ذلك السجن لمدة ستة أشهر تقريباً مع استمرار التحقيق.
وبحسب كلام المعتقلين: "استمرت جلسات التحقيق معنا لمدة ستة أو سبعة أشهر أخرى وبعدها أُطلق سراحنا بعد أن أتممنا سنة وثمانية شهور داخل سجون قسد وخرجت فرحاً وظننتُ أني سأجد ابن عمي عبدالله أمامي كما كانوا يخبروننا ولكن تفاجأت بأن لا أحد يعلم مصيره أو أي أثر له منذ اعتقاله وحتى اليوم".
ونوَّه في حديثه بأنه "لم أكن وعبدالله مقاتلين ولم نحمل سلاحاً في وجه أحد ولم نشارك مع أي فصيل، كل ذنبنا أننا كنا نتمنى الخير للجميع، كان قلبنا كما جميع أبناء سورية متعلقاً بالثورة السورية منذ انطلاقها وسعينا للخلاص من ظلم نظام فاجر كان عبدالله كلما سمع بأسرة نازحة سارع بجمع ما يستطيع جمعه ورفاقه وتقديمه لها لم يكن يدخر جهداً أو مالاً في مساعدة تلك الأُسَر وخصوصاً المرضى منهم".
وأكد: "رحلت قسد عن المدينة ورحل معها كل الظلم والحقد الذي عانيناه، وبقيت تلك الذكرى الأليمة، وبقيت أم عبدالله تنتظر خبراً يفرحها عن مصير ابنها حتى تُوفيت بعد خمس سنوات من اعتقاله حسرةً وكَمَداً على ابنها، والذي لم يدخر إخوته وأقرباؤه مالاً أو وساطة أو أي طريقة لمعرفة مصير ابنهم الذي لا زال مجهولاً حتى اليوم".