باتت الدعوات لإعادة قراءة التراث هي السؤال الشاغل للعقل العربي منذ قرن أو يزيد وصارت جدلية التراث والمعاصرة هي العناوين الطاغية اليوم على أغلفة المجلات الثقافية ومادة لتزيين المقالات الفكرية وميدان فروسية الفلاسفة والمفكرين المشغولين اليوم بالحفر المعرفي في معركة النهضة والتنوير للخروج من حالة الانسداد الحضاري التي تعيشها المجتمعات العربية.
وبات التراث بما يُشكِّله من خزّان معرفي هو الركن الأكبر في تشكيل العقل العربي المسلم ويصيغ طريقة تفكيره، وهو ما يدعونا دائماً لمساءلة التراث كمنتَج بشري ناتج عن الاحتكاك الفكري مع النص الديني عندما يفرض الواقع أسئلته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية علينا ويطالبنا بالحل.
لكن مساءلة التراث تبعث على سؤالين جوهريين؛ السؤال الأول والذي يبقى يدور في أعماقنا: ما هو الناتج المعرفي الذي نبحث عنه من خلال إعادة قراءة التراث؟
والسؤال الثاني: ما هي المنهجية المعرفية التي سنقرأ التراث بها؟ وما هي العلاقة الجدلية التي تربط بين اختيار المنهج المعرفي لقراءة النصوص والتراث والمنتَج الثقافي والمعرفي الذي سنخرج به من رَحِم هذه القراءة؟
قد يلجأ الكثير من التنويريين إلى استنساخ ومحاكاة حرفية لسردية الحرب التي دارت رَحَاها بين العلم والكنيسة من القرون الوسطى في الغرب قبل خمسة قرون والعمل على إعادة تدوير هذه الحرب وتقميص التراثيين دور الكنيسة التي تمارس الوصاية على العقل وتحتكر فَهْم النص ويتقمص خلالها الحداثيون دور الحركة التنويرية التي تواجه الكنيسة الظلامية .
في سؤالنا المطروح في عنوان المقال عن المنتَج الذي نبتغيه والمنهج الذي نسلكه في قراءة التراث، هل الحل هو في البحث عن عقلانية تراثية مثلاً؟ والعودة إلى الفلسفة الرشدية كما فعل "محمد عابد الجابري" في وقوفه على أزمة العقل العربي، الذي كان يريد توظيف شخصية "ابن رشد" لبناء عقلانية برهانية في مقابل العقلية النصية البيانية لابن تيمية والمدرسة النصية أو في مواجهة العقلية العرفانية عند "محي الدين بن عربي" وجعله جسراً للعبور من التراث إلى الحداثة ثم رميه في النهر بعد أن يؤدي الغرض المنشود منه.
أم في البحث عن العقل الاعتزالي في التراث، كما فعل "حسن حنفي" ليبني مركزية ثقافية خاصة بالثقافة العربية، فالتراث عند "حنفي" ليس له قيمة في ذاته، إلا بمقدار ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره، ويرى الحل بإنتاج الفكر المعتزلي القديم في ثوب جديد يوافق حاجات العصر، ويرى أنّ خيار اليسار الإسلامي هو إثبات الحرية، وهو خيار معتزلي قديم في جدلية الجبر والاختيار، لكن قراءة "حنفي" تعود وتلتقي بمنتجات الحداثة الغربية في عائدها الفكري والمادي ويجعل من المعتزلة مجرد جسر تراثي لبناء مركزية حول الذات باعتبارها ذات مكتفية بنفسها ولا تحتاج إلى غيرها.
أم في المنهجية التاريخانية التي تحدث عنها "محمد أركون" في كتابه أزمة العقل "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" حيث اعتبر أن "الجابري" أُصيب بالذعر والجبن ووضع المشكلة في العقل العربي بينما جذر المشكلة في العقل الإسلامي الذي أنتجه الشافعي عندما أبدع قراءة سياسية عباسية للنص، وحكم على النص بالسجن داخل منهج أصول الفقه الذي دوَّنه الشافعي في كتابه "الرسالة"، وطلب مِن كل مَن يريد قراءة النص قراءة معاصرة أن يحرر النص من سِجْن الشافعي من خلال منهج جديد، وهنا يأتي "محمد أركون" بمنهجه التاريخاني ليدخل النص بسِجْن جديد هو الآخر مستورد من الغرب، ويخلص إلى أن الدين والعبادة والعقيدة والإله هي مفاهيم تاريخانية طورها البشر في مرحلة ما للحاجة إليها وعلينا اليوم أن نتجاوزها من خلال قراءة تاريخانية جديدة تعطي معانيَ جديدة لهذه المفاهيم.
أم على طريق "محمد شحرور" في الولوج من مدخل منهج الألسنيات لتفكيك مفردات اللغة في النص الديني وإعادة التعبئة بالمعاني والدلالات الجديدة وَفْق نتيجة مضمرة سَلَفاً في نفسه على طريقة ميشيل فوكو ودريدا في منهجهم التفكيكي الذي يتلخص بمقولة: "لا شيء خارج النص" ولا ترادُف في الكلمات، وذلك بغية الوصول إلى أَنْسَنَة التراث لا بمعنى الإنسانية كقِيَم أخلاقية مشتركة، وإنما بالتطبيع مع الثقافة العلمانية المادية الفردية الرأسمالية المعولمة والسائدة اليوم بشكل خاص.
وينتهي إلى تحريف التفسير والدلالات اللغوية لتراكيب القرآن الكريم وصولاً إلى المعنى الذي يريد أن يصل له سلفاً، وبناء عليه اختار المنهج الألسني الذي يُوصله إلى هذا الهدف.
وهنا علينا أن نتنبَّه لمسألة في غاية الدقة وهي طبيعة العلاقة التلازمية بين المنهج الذي نختاره لقراءة التراث والنص الديني وبين النتيجة والعائد الفكري الذي سننتجه من خلال هذه القراءة.
وإن المتفحص لهذه القراءات يجد فيها قواسم مشتركة:
أولاً: لديها عقدة واضحة من شخصية الشافعي؛ وذلك لأن الشافعي أول مَن خط منهج أصول الفقه في كتابه "الرسالة" لضبط الفهم والاجتهاد في تناول النص، وهذا ما أوقع كل من يريد الاجتهاد بالتبعية لمنهج الشافعي وعليه فقد أصبح التخلص من الشافعي هو مقدمة ضرورية لفتح المجال أمام منهج جديد يحل محل منهج الشافعي.
ثانياً: إن البحث عن منهج جديد في فهم اللغة كحامل للمعنى وبديل عن منهج أصول الفقه والمنهج المقاصدي في فهم دلالة القرآن والسنة هو مجرد ذريعة مؤقتة للوصول إلى نتيجة معرفية تتلاقى تماماً مع المنتج الغربي لكن بدون الاستيراد المباشر لهذه الثقافة حتى لا نكون مجرد مقلدين وإنما من خلال إكراه التراث والنص على النطق بالحكم باعتباره القاضي العادل الذي يجتمع عليه تيار الأصالة والمعاصرة.
وأعتقد أن هذا المسلك غير مفيد كثيراً في معركة التحديث العربي فمن المسلَّم به عند المهتمين بنظريات المعرفة ومناهج العلوم، أن العلوم سابقة بالاكتشاف والتطبيق على قوانينها، وليست لاحقة بمناهجها وقوانينها:
فاللغة مثلاً سابقة في الممارسة والوجود على عِلْم النحو والإعراب،
والفِقه سابق في الوجود والتطبيق على عِلْم أصول الفقه،
والحديث سابق على عِلْم الرواية والمُصطلَح،
والناس كانت تتعامل مع قانون الجاذبية قبل أن يكتشفه نيوتن.
ما نريد قوله إن المنهج المعرفي قد يُسهم كثيراً في الاكتشاف والتجديد لكن المهمة الأولى للمنهج المعرفي هي ضبط الفهم عن الانحدار نحو العبثية التي نجدها اليوم في فلسفة ما بعد الحداثة والتي تحاول الانقلاب على كل النُّظم والأنساق الاجتماعية والثقافية والسياسية وتفكيكها بما في ذلك النسق اللغوي وضرب اللغة كمكوِّن للثقافة والهوية وأداة أساسية للتفكير ووسيلة أساسية للاتصال البشري وحامل للمعاني والدلالات.
وبضربها تستطع فلسفة ما بعد الحداثة الساعية للهدم أن تعيد تشكيل الهُوِيّة وتتحكم بطرائق التفكير وتستحوذ على علاقة الاتصال الإنساني وتعيد تعبئة الكلمات بمعانٍ جديدة يفقد معها النص تماسُكه وثباته ويتحول لهلام متحرك دائم التشكل والتحور.
بالنهاية هل أعني بهذا الكلام أنني ضد مساءلة التراث كمنتَج بشري وضد دعاوى التجديد كحاجة حضارية؟ بالطبع لا.
لكنني أحذر من التحيُّزات المنهجية في تناول التراث التي تفضي إلى حالة من التقليد الحرفي للثقافة الغربية عبر أدوات لغوية وتراثية متعبة تخيل للمتلقي أن هذه القراءة هي بضاعة فكرية ذاتية لم يمسها التلفيق أو التقليد لتكون أكثر مقبولية لديه مما لو جاءت بثوب الحداثة الغربية بشكل فاقع.