كان يُفترض أن تمضي الثورة السورية لغاياتها، شأنها شأن ثورات عربية أخرى، انبثقت من شقوق الأرض، ومتوالية الطغيان، قبلها، أو معها، أو بعدها.
كان يُفترض أن ينتصر الدم، أخيراً، على السيف، وأن تُجالِد الكفُّ المِخْرزَ.
فما الذي جرى؟
في كل مرّة يلمع في رأسي هذا السؤال مثل جمرة تتوقّد في شراييني، تطلع لي (إسرائيل) بكل ما يستدعي قلقها على أمنها ومفردات بقائها (غُرزةً) استعماريةً إحلاليةً في قلب جغرافيتنا المستباحة، المشتهاة، المطلوب، ليس رأسها، بل باطنها، ونبض شعوبها.
الذي جرى أن قوى الاستعمار العالمي وتحالفات رأس المال القذر، خافت من مآلات ثورة كهذه تمرّدت على أخسّ تفتُّقات الحكم الجائر في بلادنا العربية.
فما يعرفه مَن يملكون بقية من سوية أخلاق، ويوقنونه، أن النظام المستبدّ في دمشق لا يشبه غيره، لا من قريب ولا من بعيد. صحيح أنهم جميعهم يلتقون حول نقاط مشتركة: الخسّة، والجبن، وخيانة الأوطان، وسرقة المال العام، وعدم احترام إنسانية الإنسان، واستخدام الألعاب القذرة مثل لعبة الأقليات، ولعبة مقاومة الإرهاب، ولعبة حماية ظهر (إسرائيل)، والدونية، والغياب الكامل والمقيم لأي قيمة أخلاقية، أو سِمَة، أو عُرف، أو خصلة شهامة، أو لحظة وجدان. ومع تحلّي نظام الأسد بكل هذه وأكثر، فهو يزيد عليها، ببلاهة فعله الإجراميّ، وسقوط أي أقنعة عندما يلقي مجرموه براميلهم المتفجرة فوق رؤوس الشعب السوري، وعندما يَخطف الناس فيصبحون أثراً بعد عين، وعندما يَقترف أشكال تعذيب غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية رغم كل تشوّهات هذا التاريخ الضاربة جذوره في آلاف السنين الماضية، وعندما يحيل القبح إلى طُرْفة، والقتل إلى تسلية، والعفن الساكن أعماق الأجساد إلى عُقَدٍ أقَلَّوِيّةٍ مدّعيةٍ كاذبةٍ مارقة.
يتميّز عن باقي أنظمة الطغيان: بقدرته على التنظير لقبحه وجرائمه وسورياليةِ بطشِه. بادّعائه الانخراط في معسكر (المقاومة) و(الممانعة) وعلى رأي فيصل القاسم (المماتعة). بشيطنة أنّات الناس. وأما أهمّ ما ميّزه فهو ما كشفه عن غياب مروءة وسوادٍ وناموس، عندما قَبِلَ بما تقبله أي بائعة هوى كي يدافع عن وجوده الشخصي، ولتحرق بلده؛ فاستقوى بقوى غير محبّة لنا، كارهة لوجودنا، كي يحمي قفاه. فإذا به هو نفسه بلا أدنى كرامة، وإذا به هو نفسه، لو تحرك عرق شرف داخله لخرج قبل غيره يطالب بكرامة أهدرها بسقوطه أمام عجرفة الدبّ الروسي، فإذا بمشاهد مخجلة تبث على الهواء مباشرة: عسكريّ روسي يوقفه بعيداً عن مقام بوتين. عسكريّ آخر يبقيه واقفاً متنحياً مكاناً مهموشاً مخدوشاً لحين انتهاء مراسم استقبال بوتين.
طائرة نقل غير آدمي تأخذه وحده دون بهارج ولا مراسم لموسكو ليتلقى تعليماتٍ ما ويعود.
كَثُرَ الطباخون في ثورة شعب جريح، غاب الوعي في اللحظة التي كان ينبغي أن ينفجر بأكثر مجساته انتباهاً وتأهُّباً ودافعيَّة. تضاربت مصالح بعض القوى، وتعارك بعض رموز المعارضة قبل الانتهاء من تحضير الكعكة.
تسابق الناس للخروج من الجحيم، حتى ممن كان بإمكانهم البقاء. لعبت مخابرات العالم، أقذر مخابرات العالم، ألعابها، أقذر ألعابها، داخل موزاييك سورية، فأخرج الساحر من جعبته (داعش)، وأخرج أزمات كانت في طريقها للزوال، مثل أزمة الكُرْد، وأزمة السويداء، وتخبطَ الناسُ بعضهم في بعض، ونسوا أن الآفة الكبرى هي النظام، وأن زواله ينبغي أن يسبق كلَّ/أيَّ شيءٍ.
على كل حال إن مظاهرةً جديدة، بعد كل هذا الخراب، رافضةً للصَّنم في درعا، لهي تعيد الروح من جديد، وتبثّ الأنفاس في جسد الأمل. إن إصرار الناس في إدلب على إنجاح تجربة التحرر من طاغية دمشق الصغير، تُفرِح القلب، وتدعونا لدعم قُوى البناء الواعي هناك.
إن تَمَتْرُس مَن بقي من أهل الجزيرة حول قِيَمهم وتمسُّكهم بعناوين وجودهم، لهي دافعية إيجابية، يمكن البناء عليها.
إن انفجار عُرى التقوقع الخجول في السويداء، وانشطار الناس حول رغيف الخبز، من بواعث إشارات جديدة، أن الأمر لم ينتهِ عند بقاء النظام كأن شيئاً لم يكن، وكأن مليون شهيد، وأكثر، وأكثر، لم يصعدوا إلى السماء، وكأن أكثر من نصف الشعب السوري لم يهرب نحو جهات الشتات، وكأن أرقام الأسرى والمختطفين والمصابين إصابات دائمة، غير مروّعة إلى كل هذا الحد!!.
اللاذقية تنتظر الشرارة، حتى القرداحة، صدقوني، تنتظر الشرارة، أما المدن الكبرى: دمشق، حلب، حمص، وحماة، فهل سمعتم بالنار الساكنة تحت الرماد؟.
كل ما نحتاجه معراجٌ متجددٌ متصاعدٌ من الوَعْي الرشيد.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية