لا تزال الثورة السورية ضيفاً مُحبَّباً ومُقدَّراً على/في قلوب وفكر أهلها وخلانهم, ضيفاً طرق أبواب المستحيل ليكسر زمن الإرهاب الأسدي الأسود, فرغم تطاوُل الزمان عليها وضبابية الرؤية المُوصِلة لأهدافها, إلا أن الثورة السورية باقية ما بقيت الشمس في قبة السماء, ساطعة مهما تكاثفت الغيوم حولها.
في الخامس عشر من آذار 2011 حزم السوريون أمرهم للحاق بقاطرة الربيع العربي, التي بدأت أُولى محطاتها من تونس الخضراء مروراً بالقاهرة, قاهرة الغزاة والمستبدين, ومنها إلى طرابلس الغرب إلى اليمن السعيد فالفيحاء, حاضرة العروبة ومهدها الحديث. فاجأت الثورة السورية سفاحها, الذي لم يتوقع حدوثها واستبعد قيامها بدعوى عدم قابلية المجتمع السوري وتأهُّله للثورة, في حديثه لإحدى الصحف الغربية مطلع عام 2011, ما استدعى منه استنفار سادة الإجرام لديه للوقوف في وجه الزحف الشعبي الهادر, ظناً منه بفعّالية البارود في مواجهة الأغاني والورود.
تمر الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية إلا أن بريقها حاضرٌ بوهجه الأول, رغم المآسي والويلات التي تكبدها الشعب الأبيّ في مسالك الصعود إلى جبل الحرية الأشمّ, فلا تعدُّد الضحايا في العائلة الواحدة أوهن العزيمة ولا الخيام الممزقة أَلَانتها, كما لم تُؤْتِ قسوة العيش ومكابدته من بعد رغده إلا إصراراً على متابعة المسير في درب الحرية الشائكة, بعد أن حققت الثورة, منذ أيامها الأولى, أول أهدافها وأعزها للإنسان السوري, الذي بات حراً في فكره, حراً في قراره, حراً في تحديد مصيره بعد أن كان محروماً منها جميعاً.
أخرجت الثورة السورية أبناءها من قيودهم التي أثقلت كواهلهم سنواتٍ وعقوداً, أخرجتهم إلى إنسانيتهم, إلى عقولهم وفكرهم, إلى حيويتهم وعبقريتهم, إلى دماثتهم وطيب معاشرهم, بعد سنوات من الحياة الريبوتية, التي أفقدت السوري حاجته للعقل والإبداع, للعواطف والمشاعر, إلى الحيوية والنشاط , فاقدين للتفاعل والفاعلية في محيطهم المحلي والإقليمي والدولي, متوارين عن الحاضر والمستقبل, قابعين في غياهب الماضي.
حررت الثورة أبناءها من أثقال العبودية والجهل, حررتهم من براثن الفوضى ومسيرة التقدم إلى الوراء, حررتهم من نعيم صمت القبور, حررتهم من الفساد الحكومي المتجذر من قمة هرم السلطة إلى الأطراف, حررتهم من زيف الشعارات الرنانة والآيات الداعية للقائد هِبَة السماء, وتعرَّف السوريون بثورتهم كمّ العوارض والقوارض التي تصيب الدولة السورية في ظل الاستبداد والفساد, وتعرّفوا أيضاً, بحكم التجارب والتلاقح مع المحيط الإقليمي والدولي, سُبُل العلاج والبناء, مما سيتيح لهم الترقي بدولتهم لمصافي الدول المتقدمة, بعد إعادة السلطة إلى أصحابها والدولة إلى وظيفتها. فلقد تحرر الإنسان السوري جراء الثورة, وتثقّف الإنسان السوري في منعطفات الثورة, وتغلّب الإنسان السوري على الأهوال ومعوقات الحياة بعامل الثورة, وبذلك خلقت الثورة جيلاً صلباً في مبادئه, حراً ومفكراً, مما يُبشّر بمستقبل زاهر للدولة السورية ما بعد الأسد.
تقف الثورة السورية في ذكراها الحادية عشرة على مفترق طرق, بعد تلغيم مسراها الرئيسي من قِبل القُوى الداخلية والخارجية وإطفاء كل منارات الأمل لتضليلها في مسيرتها, إذ تم تحويل الثورة السورية لأداة من أدوات الصراع بين القوى الإقليمية والدولية, كما تم ربطها بالعديد من قضايا التنافس والصراع الإقليمي والدولي, في ظل واقع دولي متزايد ومعقّد الأزمات, مما انعكس سلباً على الثورة السورية, التي تم تحويلها إلى أحد أزمات الواقع الدولي الراهن, لذا يجدر بأبناء الثورة السورية فكّ التلازم بين ثورتهم وما تشهده الساحتان الإقليمية والدولية من صراعات, وبناء تحالُفات تكتيكية مع القوى الإقليمية والدولية تساهم في تحقيق أهداف الثورة.
لا تختلف الثورة عن الإنسان في تعرُّضها لما يتعرض له من أمراض وخيبات, فيما تختلف عنه في طول الأمد وتجدُّد الروح, فمهما شابَها من أمراض وخيبات لا تلبس أن تعالج نفسها أو تخرج عن خيباتها. لذا يجدر بنا ألا نلوم الثورة في زمن المرض والخيبة, لكن علينا تكثيف جهودنا في سبيل تعافيها وإزالة ما يعتريها من شوائب, وليست الثورة السورية وحيدة في تعرُّضها لهذه الأعراض والأمراض، فكثيرٌ من الثورات شابَها ما شَابَ الثورة السورية, منها ما تمكّن منها العامل المرضيّ فحرفها عن هدفها الأساسي, كالثورتين الشعبيتين في روسيا وإيران, ومنها ما تغلّبت على عوارضها وحققت أهدافها, كالثورة الفرنسية والثورات المتقطعة في إنجلترا نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث.