نداء بوست- محمد جميل خضر
في الفيلم الإيطالي السلوفيني الروائي الطويل Small Body “جسم صغير” أو “جثّة صغيرة” إخراج الإيطالية لاورا ساماني Laura Samani مع مشاركة منها في كتابة السيناريو وحرارة الحوارات وعمقها، كشفٌ عميقُ الدلالات لِما كان عليه حال أوروبا الأنوار والعلم والخلاص المطلق للفرد، حتى مطالع القرن العشرين، وتحديداً حتى عام 1900، زمن أحداث الفيلم المنتج نهايات العام 2021، والمتاح للعرض مطالع العام 2022.
يقيم الشريط في دقائقه الـ 89، مشروعيته، عبر سبر أغوار الوجع الإنسانيّ الصامت، فآغاتا ابنة الأزمنة والأمكنة التي تدور في فلكها أحداث الفيلم (أدت دورها باقتدار سيليستي كيسكوتّي Celeste Cescutti)، تلد على تعبٍ لتفجع أن المولودة جاءت بلا أنفاس حياة. حقيقةٌ تتعامل معها الكنيسة بمنطق من لا عمّاد لهم ولا يمنحون، إلى ذلك، اسماً. ترفض الأم العنيدة هذه الحقائق، تريد لطفلتها التي ولدت ميتة اسماً، وتريد لها عمّاداً يليق بكل لحظة من لحظات حملها بها. الراهب نفسه الذي أكد لها استحالة منحها اسماً، يرشدها عبر وسيطٍ إلى ممكناتِ حل: عليها أن تقطع تلك الجبال، وتصل إلى وادي دولايس خلفها، حيث كنيسة تعيد للرضيعة الأنفاس لثوانٍ، أي ما يكفي ليصبح عمّادها ممكناً وكذلك منحها اسماً.
الفيلم هو جلُّ مغامرات آغاتي في دروب ضياعها بحثاً عن تلك الكنيسة. وهو تلك العلاقة الغريبة الملتبسة مع شاب وجدها في الطريق إلى خلاصها، فباعها مرّة عندما اكتشف وجود حليب في صدرها، لأثرياء لديهم رضيع لا أمّ له، وتعاطف معها مرّة، وارتبط مصيره بمصيرها مرّات.
تقول له: “للبحر كل الروائح؛ الماء والأسماك والطحالب والملح”.
وفي مرّة أخرى، عندما ظلّ مصراً أن لا يخبرها باسمه، تقول له: “لا يكون المرء موجوداً عندما لا يحمل اسماً”. فيرد عليها: “لا بل لا يكون موجوداً عندما لا ينبته أحد إلى استيقاظه في الصباح واستنشاقه أوّل أنفاس يوم جديد”.
وحين يجنّ الليل، وبعد أن اجتازوا محنة جبل أخبرهم أهل منطقته أنه يبتلع النساء ولا يخرجن منه إلى الجانب الآخر أحياء، وبينما هما يحاولان إيقاد نارٍ كي يتسنّى لهما أخذ قسط من النوم، يدندن أغنية: “هذه الشاحبة، زهرة بنفسج.. أخذتُها للتوّ من المزهرية.. ليحيا الحب.. أريد أن أعطيها لِماريوت.. حباً لله، إنها كلُّ ما لديّ.. سيري في الجبال لقطف الزهور.. اسألي عائلتي في المنزل، فهم أولياء أمري.. وليحيا الحب”. يتبيّن أنها تعرف كلمات الأغنية، إذ يبدو أنها من تراث المناطق التي تدور أحداث الفيلم فيها بين إيطاليا وسلوفينيا (جنوب شرق إيطاليا وشمال غرب سلوفينيا وجيرانها من دول مثل أوكرانيا وألبانيا وصربيا وغيرها، قريباً من مدينة ترييستي الإيطالية عاصمة إقليم “فريولي فينيتسيا جوليا” الحاصل على حكمٍ ذاتيّ، وهي، إلى ذلك، مسقط رأس مخرجة الفيلم)، تدندن معه قبل أن تضع رأسها فوق صندوق طفلتها الميتة وتنام.
بلهجةٍ إيطاليةٍ محليةٍ مُنعت أيام الحكم الفاشيّ، وأحياناً، بلغةٍ سلوفينيةٍ قديمة، يتحدث الفيلم عن جنوب شرق إيطاليا في دياجير ركونها للخرافة عند حدود البحر الأدرياتيكي (بحر البنادقة). يسبرُ أغوارَ العزمِ المشدودِ لأوتادِ العزيمة. ترافقه بحدبٍ موسيقى الزمن البعيد، وطقوس التبتّل المريميّ المشحون بشذرات القصص القديمة. عن الأمومة، يتحدّث، والعمّاد وأطفال اللعنة الأبدية في ليمبو Limbo (الليمبو أو الأعراف أو دهليز جهنم (بالإنجليزية: Limbo)، هو في المعتقدات المسيحية المكان الذي تذهب إليه أرواح من ماتوا ولم يتم تعميدهم، بخاصة الأطفال. وهو مكان قبل الجحيم ومعناه “الشفاء”، مخصص لأرواح الأطفال الذين يتوفاهم الله قبل أن يُعمّدوا، وأرواح الوثنيين الفاضلين، ممن عاشوا قبل المسيحية). عن رحلة يائسة من أجل الوصول إلى ملاذ غامض لإنقاذ روح ابنة ولدت ميتة يدور الفيلم في مزاميره المتعوبِ عليها صورةً، وأداءً، ودلالاتِ محتوىً، وفضاءَ طبيعةٍ بكرٍ، وتناوبَ مشاهدَ بين الليل والنهار، بين عتمات الداخل، وشعاع الكون الشاسع.
في عودة للعبة الأسماء والحياة، يقول لها رفيق بحثها عن موجبات معناها (أو ربما تقول لها لأن الفيلم يضعنا داخل دوامة حيرة حول جنس ذلك الرفيق: هل هو/هي ذكر أم أنثى)، وقبل أن يتركها لمصيرها وحدها، وقد بدأ يتوجّس منها خيفة: “إياك أن تعطي أسماء للأشياء الميتة”. تناديه/ها: أيها الوشق، إنها خرجت منّي”.
يغوص الفيلم في لجج الأسطورة ومعتقدات البعث قي الأديان القديمة، ويحصّن نفسه بالاستناد إلى روافع تماسكه السينمائيّ الرفيع.
وحتى حين تهتز كاميرا مصوّر “جثة صغيرة”، فإنه الاهتزاز الذي يشبه نبض ما قبل الولادة. وهو اهتزاز البرق والرعد اللذيْن جعلنا الفيلم نعيش تجلياتهما صوتاً وصورة لحظة بلحظة.
البنت الوشق (أدت دورها بإحساسٍ عميقٍ أوندينا قوادري Ondina Quadri، وواضح من اسم العائلة الأصول العربية لتلك الممثلة)، تترك أغاتي ملقاة فوق ثلج الشاطئ بعد أن لفظها البحر بلا أنفاس، وتكمل ما بدأته الأم. تذهب بالجثة الصغيرة إلى الكنيسة، وتعيد لها الأنفاس هنيهة، ما يكفي لأن يصبح لها اسماً. تسألها الراهبة: ما الاسم الذي تريدين منحه إياها؟ تجيبها وهي تحدق بالجسد الصغير حد التلاشي بين يديها: بحر.
تعود الكاميرا لجوف البحر حيث أغاتي وجثتها الصغيرة تصارعان مياه العدم. يطلع مرّة ثانية صوت الأغنية الهدهدة التي غنتها أغاتي في بدايات الفيلم بلحنٍ وئيدٍ بعيدٍ عنيد: “نامي يا ابنتي الجميلة.. فمن قاع البحر.. تندفع موجة طويلة.. جالبة النوم معها.. يتكسّر القمر.. في الماء الأسود.. تتحرّك مراسي السفن عكس التيار.. بينما أحاول وضعكِ في سريرِكِ.. والظلام تام.. في درب التبّانة..”.
مع مرور شارة نهاية الفيلم، يطلع صوت الجوقة بألحان كنائسية وكلمات تتجلها بوصفها جواباً على كلمات أغنية/ هدهدة أغاتي: “هناك طفلة جميلة.. من قاع البحر.. زحفت صاعدة والقمر ينكسر.. ولم يحن الوقت، بعد، للماء الأسود.. حتى يرتفع مدّهُ ببطء..”.. ثم مفردة كأنها لازمة صلاة، وبما يشبه “آمين” على سبيل المثال. عندها، وعندها فقط، تشعر لاورا ساماني أنها قالت ما تريد قوله في شريطها المختلف، وما أرادت إيصاله حول سرديةِ بحرٍ يجمع ثقافات، ويشكّل حبل وصال مع الأبيض المتوسط (يعدّ البحر الأدرياتيكي أحد فروع البحر الأبيض المتوسط، وهو يفصل شبه الجزيرة الإيطالية عن شبه جزيرة البلقان، وسلسة جبال الأبينيني عن سلسلة جبال الألب الدينارية. من الغرب والشمال تحدّه إيطاليا، ومن الجهة الشرقية تطلّ عليه من الشمال للجنوب سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وصربيا ومونتنيغرو وألبانيا. سمي بذلك نسبة إلى مدينة أدريا أو هدريا الواقعة شماله في الأراضي الإيطالية)، وعن أساطير خصب وولادة، وموت ونجاة، وعودة من الموت، ونزول للأعماق، حيث صراع ممتد منذ ملايين السنين بين آلهةِ وَفْرَةٍ وآلهةِ جَدْب، وحيث متوالية المعنى تعيدُ إنتاجَ نفسِها مع إطلالةِ كلّ ربيع.
بقي أن أقول: إن كل ما تقدم هنا من تفاصيل واسترسال بسرد أحداث الفيلم، لا يفقد من متعة مشاهدته قيد أنملة، لأنه ليس من نوع التشويق الميلودرامي المكشوف، ولا من الأفلام التي تتكئ على مفاجآت الربع الساعة الأخيرة من دقائقها. إنه من نوع سينمائي مختلف، يريد للصورة أن ترتقي فتصير أسطورة، وللصراع الإنسانيّ الجوّانيّ أن يتعمّد بآلام البناة الأوائل للحضارات والإثنيات. إنه خوضٌ لِبحار الاكتشاف والتواصل والأمل. إنه أسطورةُ البَعْث في سرديّةٍ سينمائيةٍ مُحْكَمة.