نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
من زاوية مغايرة، يعاين الفيلم الرواندي الأمريكي الروائي الطويل Trees of Peace “أشجار السلام” تأليف وإخراج ألانا براون Alanna Brown، المأساة الدموية الرواندية في تسعينيات القرن الماضي، بين قبيلتَيْ التوتسي والهوتو.
براون التي ترجع ببشرتها السوداء، على ما يبدو، إلى أصول رواندية، لم تكن تريد لفيلمها المنتَج عام 2021، والمتاح عام 2022، أن يتحوّل فقط إلى مرافعة عدلية جنائية ضد من ارتكب المذابح من قبيلة الهوتو في تلك الشهور المنقوعة بدم زهاء مليون رواندي من قبيلة التوتسي، رغم احتواء الفيلم على شكل من أشكال الإدانة. هي أرادته، بغض النظر عن وقوع أحداثه من عدم وقوعها، مرافقة وجدانية نفسية قيمية، لمعاناة أربع نساء يجدن أنفسهن دون سابق إنذار داخل قبو يُغلق من الأعلى، ولا يفتح إلا من الخارج، وضعهن زوج واحدة منهن هناك لحمايتهن من المقتلة الكبرى الجارية في شوارع رواندا على آلاف أقدام وسيقان القبيلة التي فقدت في لحظة غريزيّة همجية عقلها وضيعت صوابها، فصارت تقتل على الهُوِيَّة.
ليس مصادفة إذاً أن الزوج فرانكوس (أدى دوره تونجاي كيريسا) ينتمي إلى قبيلة الهوتو ممن لا يؤيدون ما يجري ويرفضون الذبح الذي أدمى روح الوطن. وليس مصادفة أن أقاربه من القبيلة المتهمة بدم مئات آلاف الروانديين يطلقون على أمثاله من المعتدلين العقلانيين، لقب المتقاعسين، ويعدمونهم بعد منحهم فرصة (التوبة) والانخراط في القتل بمختلف أدواته الممكنة حتى لو كانت سيفاً غير حادّ يحزّ الجلد بقسوة بشعة مثقلة بالقبح، في حالة رفضوا فرصة (التوبة) تلك. فكل هذا وذاك، ووضع براون امرأة من نساء القبو تنتمي إلى قبيلة التوتسي، وواحدة أمريكية جاءت للتغطية الصحافية، والرابعة قسيسة لم توضح لنا المخرجة/ الكاتبة لأي قبيلة تنتمي، كله ليس مصادفة، بقدر ما شكّل، بمجمله، ولضمه إلى بعضه، مفردات ضمن السردية الكليّة للفيلم، القائمة على إدانة القتل، وكذلك إدانة التخندق الجمعيّ الغريزيّ غير المحتكم إلى العقل، كما حدث مع موتيزي (بولا كوليووشو) المنتمية إلى التوتسي عندما استنفر معرفتها بأصل Annick (إليانا يوموهيرا) كل مجسّات الكراهية داخل وعيها ولاوعيها، وتمنّت لو أنها بقيت في الشارع وذُبحت بسكين حافية على أن تقبع لزمن مجهول إلى جوار امرأة من قبيلة مَن قتلوا كل أسرتها، دون أن تحاول إدراك اختلاف Annick عن الهيجان السائد، ورفضها دوامة القتل المسعور.
في عالم القبو كل شيء مختلف، هذا ما تركز عليه المخرجة/ الكاتبة، وما تترك موسيقى الفيلم تشير إليه، وكذلك إضاءته وألوان تأثيره، ونبض القلوب الموجوعة داخله.
81 يوماً قضتها النساء الأربع داخل قبو صغير مظلم بأقل الماء وأقل الطعام (واظب فرانكوس على تأمينهن ببعض الماء والطعام كلما وجد درباً آمناً، فقبيلته لن تسامحه، حتى لو كان منها، إن عرفت ميليشيات القتل فيها، أنه يرسل الماء والطعام لمختبئات من المجزرة، ومن بينهن واحدة من التوتسي)، وبلا تلبية لحاجات بيولوجية من مثل الذهاب إلى الحمّام: “في القبو لم نعد نحيض، ولم نعد نتبوّل”، ولكنهن وجدن، بعدما نجونَ، الشِّفاء، ووجدن أنفسهن، أو بالأحرى أعدن اكتشاف أنفسهن، وأنقذن أرواحهن، قبل أن ينقذن أجسادهن، إضافة إلى إنقاذهن الجنين في رحم Annick، وهو الحمل الرابع لها بعد ثلاثة إجهاضات. منحن الجنين اسم إيلايجا، وتناوبن على إحاطته، حيث يقبع في قبوه الخاص، بالحب والحدب والأمل.
هذا ما أرادت براون أن تقوله في 97 دقيقة، ولعل رواندا بمجملها كانت بحاجة إلى اختبارٍ قاسٍ إلى كل هذا الحد، كي تتعافى وتنهض من جديد.
فيلم عن متوالية الليل والنهار داخل مربع صغير لا تعود هذه المتوالية تعني فيه شيئاً. عن كتابة الأيام وتعدادها، كما في السجون، على جدران الروح. عن الزحف عند حواف الانغلاق بلا أي أُفق. فيلم ينبغي تجربته، تجرّعه زفرة.. زفرة، وليس فقط مشاهدته.
الناجيات من الإبادة الجماعية، قُدن في رواندا -بحسب ما كتبت المخرجة على شاشة الفيلم بعد نهايته- إعادة تأهيل قائمة على التعافي عَبْر التسامح، وعددهن اليوم في حكومة بلادهن، أكثر من أي دولة أخرى في العالم.