في الحقيقة يُظهر استمرار تمرّد محافظة درعا خَوَاء مزاعم السلام الأسدية التي يتشدق بها مِراراً وتَكْراراً.
مدينة "درعا" تقع جنوبي سورية، على بعد ثمانية أميال فقط شمال الحدود الأردنية وكانت هذه المدينة هي المكان الأول في سورية الذي بدأ بالتخلّص من قيود 40 عاماً من الديكتاتورية البعثية، عندما بدأت تندلع الاحتجاجات في جميع أنحاء الشرق الأوسط في سلسلة من الانتفاضات الديمقراطية التي أصبحت تُعرف باسم "الربيع العربي".
بعد أكثر من 10 سنوات من الصراع، وتقديرات عن إحصائيات ضحايا متباينة تُقدّر بـ 600 ألف قتيل ومختفٍ، وأكثر من 12 مليون نازح لا تزال نبرة التحدي موجودة في المحافظة.
فبعد أن قام مجموعة من الفتيان المراهقين (معاوية وسامر الصياصنة) بكتابة شعارات مناهضة للأسد "أجاك الدور يا دكتور" على جدران باحة المدرسة وبعد أن تمّ اعتقالهما من قِبل أجهزة أمن النظام لأكثر من شهر، مما أثار احتجاجات في قلب المحافظة التي تقع جنوبي سورية ومقابلته بالعنف والتعسف من قِبل قوات أمن النظام مما أشعل الوضع أكثر فأكثر.
وأطلق منذ ذلك الحين لقب "مهد الثورة السورية" على محافظة درعا بعد أن فتح النظام النار على المتظاهرين العُزّل, بعد ذلك كلّه، يبدو أن المشهد يتكرر.
في حين أن تحدي درعا في عام 2011 كان بمثابة صدمة، إلا أن الأحمق فقط هو الذي يمكن أن يكرر ذلك في عام 2021، فحتى بعد خسارة جيل كامل بسبب إراقة الدماء والوحشية. تستمر مقاومة درعا رغم الانتصارات الأسدية المدعومة من روسيا.
لأن هناك جيلاً جديداً من المقاتلين على استعداد لجعل النظام يحلم بالعودة إلى فترة الهدوء التي شهدها خلال الفترة الماضية.
درعا إحدى أولى المحافظات في سورية التي طردت قوات النظام في المراحل الأولى من الحرب، لكن نظام الأسد المدعوم من روسيا في تموز/ يوليو 2018 استعادها، مما دفع سكان المحافظة إلى إبرام اتفاق "مصالحة".
أما أولئك الذين لم يقبلوا بوجود النظام في درعا فتم تهجيرهم قسراً إلى شمالي سورية، فيما خضع من بقوا لحكم النظام مع قيام روسيا بدور الضامن.
كانت المصالحة والترتيبات الأمنية في درعا مع النظام فريدة من نوعها، حيث منحت قوات المعارضة درجة من الحكم الذاتي المناطقي تحت إشراف روسي اسمي لم نشهده في المناطق الأخرى التي كانت تسيطر عليها المعارضة سابقاً.
لكن هذا الاتفاق كان دائماً بمثابة عرض غير قابل للاستمرار، سواء بالنسبة للنظام أو المعارضة، وهو اقتراح محكوم عليه أيضاً بالاستخفاف الكبير بالحياة البشرية الذي أظهره الضامنون في موسكو.
الوضع معقَّد بسبب طموحات إيران الإقليمية، لا سيما رغبتها في تكوين قوة عسكرية دائمة على امتداد الحدود الشمالية لإسرائيل.
وعلى هذا النحو، تصاعدت التوترات بين القوات المدعومة من إيران وروسيا أثناء تنافُسهما على النفوذ على حدود مناطق كل طرف في درعا.
وكانت "صفقات المصالحة" هذه، التي تتبع عادةً قصفاً جماعياً عشوائياً وحملة "حصار وتجويع"، مكوناً آخر لحملة التطهير الطائفي للحكومة وآلية لفرض مزيد من العقوبة ضد شعبها المنهار بالفعل. تم الكشف عن أولويات دمشق في درعا بقرارها السعي إلى معاقبة أعضاء الخوذ البيضاء، الجماعة الإنسانية السورية، فهي تُصدِر عفواً عن الجماعات المسلَّحة في درعا لكنها في نفس الوقت تلاحق المسعفين إلى أقصى حد، قد يصل إلى إبادتهم, حتى تمّ تهريب عدة مئات من أعضاء الجماعة من سورية ضِمن عملية دولية.
ولكن على عكس المحافظات السابقة الأخرى التي كان يسيطر عليها مُقاتِلو المعارضة والتي تمت مصالحتها تحت سيطرة النظام، ولا تزال درعا متمرّدة على النظام ويستمر مواطنوها في تحدي النظام بشكل علني.
فخلال الانتخابات الرئاسية "الصورية" في أيار/ مايو، كانت درعا في حالة ثورة عامة رافضةً لشرعية النظام وقاطعت العملية الانتخابية.
وتتكون القيادة المحلية لحي "درعا البلد"، من مجلس من الثوار السابقين (المتصالحين الآن) ونشطاء المجتمع المدني، المعروف باسم اللجنة المركزية، الذي تم تشكيله عام 2018 لتنفيذ خطة اتفاق التوسط الروسي.
ومع ذلك، بعد أكثر من ثلاث سنوات على اتفاق المصالحة، لم يتم الوفاء بالوعود الرئيسية التي قدّمها النظام فيما يتعلق بالخدمات العامة، مما أدى إلى مزيد من الانشقاق والعداء بين الأجهزة الأمنية للنظام وسكان المناطق المتصالحة.
لا يمكن التسامح مع مثل هذه المعارضة العلنية في دولة الأسد البوليسية الاستبدادية، وقد رد النظام بشن هجوم عسكري جديد على المحافظة نهاية شهر حزيران/ يونيو، وفرض حصاراً خانقاً على حي "درعا البلد"، مما يعرّض حياة 40 ألف مدني للخطر، بعد أن رفض سُكانها الاستسلام والسماح للنظام بمداهمة المنازل في المدينة.
وقال عمار -وهو ناشط وصحافي مقيم في درعا والذي طلب عدم ذكر اسمه الأخير-: إن الوضع بالنسبة للمدنيين مُزْرٍ. وأضاف عَبْر مِنَصّة مُراسَلة مُشفَّرة: "المدنيون محاصَرون في درعا البلد ومخيم درعا للاجئين". وأوضح أنه: "بسبب وجود قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران بالقرب من هذه المناطق، فإن عشرات العائلات مُحاصَرة بشكل كامل لدرجة عدم تمكُّنهم من مغادرة منازلهم بسبب نيران القنّاصة".
وتابع: "فقدت هذه الأحياء المحاصرة أيضاً إمكانية الوصول إلى النقطة الطبية الوحيدة التي كانت تعمل بسبب النقص الحادّ في الإمدادات الطبية". وفي حديثه الموجَّه للمجتمع الدولي.
ودعا "عمار" إلى اتخاذ إجراءات فورية لحماية المدنيين و"منع إكمال الحملة العسكرية للنظام".
وأفاد أن "الميليشيات الطائفية تعرقل الاتفاقات في جنوبي سورية وتعمل على تصعيد الوضع العسكري بشكل كبير".
وكان تصعيد النظام مُحتمَلاً لبعض الوقت نظراً لتحديات درعا المتكررة لسيطرة النظام، وقد أبدت المحافظة مقاومة عنيفة منذ سقوطها في أيدي قوات النظام، حيث انتشرت هجمات مُقاتِلي المعارضة ضد قوات الأمن والاغتيالات والتفجيرات على مدى السنوات الثلاث الماضية.
ولقد حاول نظام الأسد مراراً وتَكْراراً القيام بالاعتقال التعسفي والتعذيب وقتل أكبر عدد ممكن من الناس لإسكات المحافظة، لكن درعا تواصل تحدي دمشق حتى بينما يعيش مُواطِنوها في خوف دائم من الانتقام.
وبعد أسابيع من الحصار، اندلعت في محافظة درعا جولة جديدة من الصراع المسلّح, وقامت بعض الجماعات بنشر بيانات مصوَّرة على الإنترنت تضامُناً مع مدينة درعا عاصمة المحافظة المحاصرة، وقامت تلك الجماعات بشن هجمات على حواجز النظام.
وقد أدّى الهجوم المفاجئ إلى تحطيم وَهْم النظام بالسيطرة، وأثارت المشاهد المُهِينة لعشرات من قوات النظام الذين اعتقلتهم جماعات مسلَّحة في درعا غضب النظام.
وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، فشلت اللجنة المركزية في درعا والنظام في تحقيق وَقْف إطلاق النار بعد عدة جولات من المفاوضات بين جولات القتال المتقطع.
إن وضع المدنيين في المحافظة يسوء بشكل متزايد، حيث أصدر تحالُف المنظمات السورية غير الحكومية بياناً يدعو إلى تحرُّك دولي فوري.
وقال تحالُف المنظمات السورية غير الحكومية في بيان أُرسل للصحافة الأسبوع الماضي: "مع التدهور السريع في الوضع الأمني وازدياد الأعمال العدائية والفظائع المرتكَبة ضد المدنيين خلال الأيام القليلة الماضية، تواجه درعا البلد ومحيطها أعنف هجوم في جنوبي سورية منذ توقيع اتفاقية خفض التصعيد في عام 2018."
وقال البيان: "أرسل الأطباء والموظفون الطبيون نداءات طارئة للمساعدة لطلب فتح ممرات إنسانية عاجلة لإحالة الجرحى الذين يحتاجون إلى تدخُّلات جراحية عاجلة، في ظل النقص الهائل في الإمدادات الطبية"، كما حثّ البيان الأمم المتحدة على إعادة فتح عمليات المساعدات عَبْر الحدود مع الأردن.
وكانت قد أصدرت "ميشيل باتشيليت"، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بياناً الأسبوع الماضي دعت فيه إلى "وقف فوري لإطلاق النار في المحافظة التي ترزح تحت الحصار من أجل تخفيف معاناة المدنيين في درعا".
وكانت قد أُجبرت المخابز في "درعا البلد" هذا الأسبوع على الإغلاق، مع نفاد إمدادات القمح للحي المحاصَر وندرة الطعام بشكل متزايد, ولكن حتى وقت كتابة هذا التقرير، لم يكن هناك أي تقدُّم على الصعيد المحلّيّ والدبلوماسيّ، للتخفيف من المجاعة التي يفرضها النظام على درعا.
إن الديكتاتورية لا تزال تلعب لعبتها الطويلة الأمد في سورية، فهي تأمل في القتل والقصف والحصار والقمع أن يكون هو طريقها تجاه الشرعية. فمن خلال التركيز على حسم الصراع العسكري لصالحه، وبمساعدة حلفائه في طهران وموسكو، وعدم القيام بأي شيء لمعالجة الظروف التي أدّت إلى الثورة السورية، يبذر النظام بذور تمرُّد دائم.
لقد أحبطت "درعا" أيضاً محاولات النظام لإعادة روايته "الحرب على الإرهاب" لتبرير حربه الوحشية ضد شعبه، بوصف المدينة موطن الجماعات المتمردة، التي كانت مدعومة سابقاً من قِبل الولايات المتحدة والأردن، والتي حافظت على تكوينها العلماني والديمقراطي في جميع أنحاء مسار الحرب، حتى مع هيمنة الجماعات الإسلامية والجهادية السلفية. فمن خلال استمرار الاحتجاج من أجل الحريات الديمقراطية، تتعارض درعا مع تصوير الحكومة لنفسها كقوة لفرض النظام.
لم يكن مفاجئاً أن "معاوية" و"سامر الصياصنة"، اللذين اعتُقلا بسبب كتابات ضدّ الأسد على الجدران في عام 2011، حَمَلَا السلاح في النهاية لمحاربة النظام, ولا ينبغي أن يكون مفاجئاً أيضاً -بالنظر إلى تاريخ المحافظة، حتى في ظل اتفاق مصالحة النظام- أن أهالي درعا لا يعتزمون العودة إلى الحياة تحت سيطرة النظام.
بينما تظهر دائرة العنف المستمرة في درعا اليوم، فإن جيلاً جديداً، بعد 10 سنوات من بداية الصراع، يحمل السلاح لأول مرة لمواصلة القتال. في حين أن "مهد الثورة" لا يزال نموذجاً فريداً للتحدي المُناهِض للنظام في سورية، حيث إن طفرات نمو انتفاضة جديدة هي حال الوضع الراهن لحكومة دمشق، وما دام النظام يحكم شعباً يرفضه، فإن سورية ستستمر في مُواجَهة حرب بلا نهاية.