نداء بوست- سليمان سباعي- حمص
تجسد الواقع المعيشي الذي تشهده مناطق سيطرة النظام السوري، حرفياً إحدى القصائد الشعرية التي ألقاها الشاعر السوري نزار قباني والتي جاء بشطرها الأول “هذه البلاد شقة مفروشة لشخص يسمى عنترة”.
قرأت تلك القصيدة منذ عَقْدين تقريباً من الزمن، كنت أغرق بدقة التفاصيل التي يأتي القباني على ذكرها، وكنت دائماً ما أحرص على إخفاء ذلك الكتاب المعنون بجملة “قصائد سياسية ممنوعة” ولأعود لقراءتها بين الحين والآخر.
لم أكن أعلم أن قصائد القباني كانت عن محض تجربة ومعرفة عميقة بنظام الأسد الأب القمعي المستبد الذي قبع على رقاب الشعب بسياسة الحديد والنار، ليتكشف المشهد أمامي رويداً رويداً مع تقدمي بالعمر، ولحين معاصرتي لأحداث الثورة السورية التي كنت شاهداً على العديد من جرائم الحرب التي ارتكبها ذلك النظام بحق المدنيين، والذي برهن وأكد صدق نزار بكل كلمة وصف بها نظام البعث الحاكم.
أجهزة المخابرات ورؤساء أفرع الأمن ضِمن مناطق سيطرة الأسد تعمل بشكل دؤوب منظم ومجذر راسخ في عقولهم الإجرامية لمنع نضوج الشعب السوري، ووضع حدّ لطموحاته التي يمنع قانون البعث تجاوزها.
صادفت العديد من شرائح المجتمع المدني من المميزين بأفكارهم وطموحاتهم الرافضين لسياسة “القطيع” التي يفرضها نظام الأسد على قاطني مناطق سيطرته، والذين حاولوا التمسك ببلدهم الأم ومسقط رؤوسهم، رافضين الخروج منه رغم ما حل به من خراب وتدمير بفعل الحرب التي شهدتها سورية.
ومضات مضيئة ما لبثت أن انطفأت:
حاول عدد من الأشخاص الذين تربطني بهم علاقات وثيقة التميز بعملهم المهني من خلال تطويره والنهوض به بما يخدم المجتمع المدني، وبالوقت ذاته يدر عليهم أرباحاً مالية وفيرة، إلا أن الطريق كان دائماً ما يُقطع عليهم لتكبيل حركتهم والإبقاء عليهم ضمن الحدود الموضوعة من قِبل نظام الأسد والتي من المستحيل تجاوزها إلا في حال كان لهم نصيب الأسد من تلك المشاريع.
جهاد.. شاب في مقتبل العمر تمكّن من خلال خبرته التي اكتسبها خارج سورية من إنشاء معمل بدائي يقوم ضمنه بتصنيع الحجر الصناعي الذي نافس وبشدة أحجار الرخام المستخدمة بتلبيس واجهات البناء، وما أن انطلق عمله وذاع صيته بين المتعهدين الذين باتوا يقصدونه من شتى المحافظات السورية نظراً لانخفاض سعره مقارنة بالحجر الطبيعي حتى تم إيقافه عن العمل بتهمة عدم حصوله على موافقات وسجل تجاري من حكومة النظام.
اعتقد جهاد لوهلة من الزمن أن ما وُجه إليه من اتهامات هو السبب الفعلي لإيقافه عن العمل، ليقوم بالحصول على سجل تجاري مرخص بشكل رسمي، قبل أن يُفجع بإغلاق معمله البدائي بتهمة عدم مطابقته للمعايير الهندسية.
جهاد حاول فهم ما يجري حوله ليكتشف أنه من غير المسموح أن تعمل لصالحك الشخصي وتجني أرباح تعبك وتفكيرك وحدك، وإنما يجدر بك مشاركة أحد رؤساء الأفرع الأمنية، أو في أحسن الأحوال مشاركة أحد المقربين من سلك الدولة.
غادر جهاد معمله الذي أمل يوماً ما بأن يوفر للمجتمع المدني -الذي يعاني من ضيق على المستوى المعيشي والمالي- بضائع تفي بالغرض وبسعر معقول إلا أن دولة البعث كان لها رأي آخر أكملت به شطر الشعر الذي ترنم به القباني من خلال قوله:
“عنترة لا يتركنا دقيقة واحدة..
فمرةً يأكل من طعامنا..
ومرةً يشرب من شرابنا..
ومرةً يندسّ في فراشنا..
ومرة يزورنا مسلحاً ليقبض الإيجار عن بلادنا المستأجرة”.