شهدت الأسابيع القليلة الماضية تهديدات تركية بشن عملية عسكرية تطال ميليشيا "قسد" ( PYD YBG) الإرهابية والتي تعتبرها أنقرة أذرعاً وتنظيماتٍ مسلحةً تتبع بشكل مباشر حزبَ العمال الكردستاني المصنَّف دولياً كحزب إرهابي تخوض معه أنقرة منذ 40 عاماً حرباً ضروساً داخل أراضيها وخارجها (سورية والعراق) كلَّفت الطرفين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى.
ومما لا شك فيه أن لأنقرة الأحقية القانونية والسماوية الكاملة التي تضمن لها -ودون أخذ الإذن من أحد- الدفاع عن حدودها وأمن مواطنيها والقضاء على كافة أشكال الإرهاب والمنظمات الإرهابية التي تهددهم؛ فواشنطن وتحالف أكثر من 80 دولة قدموا إلى سورية بقضّهم وقضيضهم لمكافحة إرهاب يبعد عن حدودهم آلاف الكيلومترات؛ إذاً هذا وغيره يُعطي الحق لتركيا دون غيرها أيضاً باعتبار أي تواجُد ميداني وانتشار مسلح لميليشياتBYD, YBG الإرهابية (المدعومة أمريكياً) بالقرب من حدودها الجنوبية وقيام هذه التنظيمات وبشكل مستمر بعمليات إرهابية استفزازية تستهدف من خلالها الجنود والقواعد التركية في مناطق "عفرين" و"درع الفرات" و"نبع السلام" هو تقويضاً لأمن البلاد واستقرارها.
ناهيك عما تقوم به هذه الميليشيات من اعتداءات إرهابية ممنهجة ومتكررة بالصواريخ وقذائف المدفعية والمفخخات التي تستهدف بها السكان المدنيين والآمنين في تلك المناطق؛ كل هذه الأحداث مجتمعة تشكِّل لدى القيادة التركية مصدراً للقلق الدائم من هذا الواقع المفروض وغير المبرر ولا المقبول، بل وتعتبر أنقرة ميليشيات PYD، YBG حقيقة خطراً داهماً وتهديداً كبيراً يستهدف استقرار الأراضي التركية وسلامة وترابط نسيجها الاجتماعي، ويعمل باستمرار ومنذ سنوات على زعزعة أمن البلاد القومي.
من المؤكد الآن أن مناطق شرقي الفرات التي تسيطر عليها ميليشيات BYD، YBG بما فيها مدينتا منبج وتل رفعت ومحيطهما باتت تزدحم وتعجّ بأصحاب النفوذ متعددي الأهداف والإستراتيجيات؛ قد شهدت مؤخراً تطورات وتحركات وانتشارات ميدانية واسعة وعديدة لكثير من الأطراف المتواجدة فيها؛ فقد قام جيش الأسد المجرم بشكل ملحوظ إثر التهديدات التركية لقسد بتعزيز مواقعه شمالي منبج، بدءاً من منطقة "العريمة" وصولاً إلى معبر "عون الدادات" وعلى طول خط "نهر الساجور" الذي يشكل بدوره حاجزاً طبيعياً يفصل قوات النظام عن مناطق درع الفرات حيث تتواجد القوات التركية والجيش الوطني، كما قام أيضاً بتعزيز نقاطه العسكرية شرقي مدينة منبج وعلى طول طريق «M4»، الإستراتيجي الذي يصل محافظة الحسكة بمدينة حلب مروراً بالريف الشمالي للرقة وقد ضمت هذه التعزيزات جنوداً ودبابات وراجمات صواريخ ومدافع ثقيلة.
أما القوات الروسية فقد عززت أيضاً من عديد قواتها ونشرت شرطتها العسكرية في هذه المناطق وتستعد قريباً لإجراء مناورات عسكرية جوية وبرية مشتركة مع جيش النظام، على غرار المناورات التي أجرتها معه نهاية الأسبوع الماضي في منطقتَيْ "تل تمر" شمال غرب الحسكة و"عين عيسى" شمالي الرقة.
إن كل هذه التحشيدات والتعزيزات والمناورات التي تقوم بها روسيا والنظام عملياً تعتبر رسائل ضغط موجهة لأنقرة علَّها تُجبرها على إعادة حساباتها ومراجعة قراراتها وتثنيها عن تنفيذ تهديداتها والقيام بأية عملية هجومية تستهدف فيها المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات "قسد" الإرهابية؛ ويتضح ذلك أيضاً بعد أن قامت موسكو بنشر منظومات للدفاع الجوي وطائرات "سوخوي 35" وحوامات الدعم الناري من طراز كاموف (Ka-52) "التمساح" و (Mi-8MTV-5) في كل من مطارَي "الطبقة" و"القامشلي" وقيامها بشكل غير مسبوق بطلعات جوية بأجواء شرق الفرات وفوق مناطق سيطرة القوات التركية في "الباب" و"عفرين" و"منبج" بل وتنفيذها دون أي رادع أو أي حسابات أخرى لضربات عدة استهدفت بعض النقاط والتمركزات للجيش الوطني في محيط "عفرين" و"جرابلس".
ويأتي ذلك كله أيضاً بالتزامن مع إدخال التحالف ولأكثر من مرة خلال الأيام القليلة الماضية لمئات من الآليات والتعزيزات والمواد اللوجستية العسكرية من معبرَي "الوليد" و"سيملكا" إلى مناطق انتشار قواتهم وقواعدهم في شرقي الفرات تحسباً واستعداداً لأية مواقف طارئة قد يفرضها الواقع الميداني المتأزم أصلاً.
وكما تشير المعلومات وعلى غير العادة فقد أجرت "قسد" مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الروسية وجيش النظام قرب خطوط التماسّ مع القوات التركية والجيش الوطني في أرياف رأس العين وتل أبيض وعين عيسى الجنوبية واللافت في هذه المناورات أنها تمت تحت أنظار التحالف وواشنطن دون أي انعكاسات أو ممانعة أمريكية تجاه ذلك.
في الطرف المقابل شهدت هذه المناطق أيضاً استنفاراً ورفع حالة التأهب للجيش التركي بعد استقدام أنقرة والجيش الوطني لمزيد من التعزيزات إلى خطوط التماسّ مع ميليشيات "قسد" الإرهابية والنظام وعلى كامل الشريط الحدودي مع سورية؛ وأيضاً قيام الجيش التركي مؤخراً بالإشراف على عمليات التدريب والمناورات بالذخيرة الحية التي قامت بها الفصائل وحركة عزم والجبهة الوطنية للتحرير والهادفة لرفع سوية القادة والأفراد القتالية التكتيكية في خوض المعارك وإبقائهم بحالة الجاهزية القتالية الكاملة انتظاراً لساعة الصفر التي طالت حقيقة.
وقد حاكت هذه المناورات التي جرت التدريب على عمليات قتالية هجومية محتملة بالإضافة إلى مواقف وفرضيات قتالية عديدة من المحتمل أن تقوم بها ضدّ مواقع وتمركزات "قسد" في أكثر من جبهة وعلى العديد من المحاور.
إن هذه التحركات الميدانية المكثفة والمتسارعة لكافة أصحاب النفوذ قد وضعت وإلى درجة كبيرة الشريط الحدودي التركي السوري والمناطق التي تسيطر عليها ميليشيات "قسد" الإرهابية في منبج وتل رفعت على برميل من البارود وصفيح ساخن وقد تغير هذه التحشيدات والتحشيدات المضادة في الأيام والأسابيع القليلة القادمة وبشكل مفاجئ صورة المشهد الميداني والمواقف السياسية والعسكرية للمنطقة برُمَّتها. وهنا ومن خلال كل ما يجري من تطورات وأحداث ميدانية لا بد لنا أن نتساءل إذاً ما هو الدور الروسي المنتظر والأهداف التي تريدها موسكو وتعمل عليها لتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة من خلال استثمار التهديدات التركية؟
في الواقع إن موسكو ومهما قمنا بتدوير الزوايا وراقبنا المواقف فهي عملياً الآن أكبر المستفيدين مع النظام من الواقع الميداني الناشئ والساخن؛ ومن انعكاساته وارتداداته الميدانية؛ فحقيقة الأمر أن موسكو تريد الاستثمار في التهديدات والتحشيدات التركية والانعكاسات السياسية والميدانية التي أحدثتها بشكل مدروس ومنهجي من خلال اتباع أسلوب زيادة الضغط النفسي والميداني على ميليشيات "قسد" الإرهابية وقيادتها الميدانية والسياسية وابتزازهم وذلك باستثمار نتائج قلقهم ومخاوفهم وتضخيمها حتى أكثر من النتائج المحتملة والمتوقعة في أي مواجهة محتملة لهم مع تركيا؛ ناهيك عن استثمار تحذيرهم أيضاً من عاقبة سوء تقدير المواقف وعدم القيام بالحسابات بشكل صحيح وتجاهُل النصائح الروسية المزعومة رغم التحذيرات ووقوعهم ثانية في مطب تكرير سيناريو ما حدث سابقاً حين رفضت "قسد" إملاءات موسكو فتُركت وحيدةً دون دعم من أحد في مواجهة الزحف التركي في عمليتَيْ "غصن الزيتون" و"نبع السلام" التي سيطر بموجبهما الجيش التركي على مدن "عفرين" و"تل أبيض" و"رأس العين" بسرعة وفي زمن قياسي قصير!!
إن هذا الضغط الدائم الذي تمارسه موسكو على ميليشيات "قسد" كما هو معلوم وبشكل أو بآخر يهدف لإثارة مخاوفها وإجبارها قبل فوات الأوان ووقوع (الفأس بالرأس) على تسريع الخُطَى للتقرب المذلّ من نظام الأسد المجرم وحث قياداتها السياسية والعسكرية بإشراف ورعاية روسية على إجراء مباحثات قد تم بعضها فعلاً خلال الأيام الماضية في مطار "القامشلي" و"عين عيسى" وقاعدة "حميميم" بهدف تذليل وتبديد الخلافات الموجودة بين الطرفين والوصول لتفاهُمات سريعة يتم بموجب هذه المحادثات وكما تخطط له موسكو قيام ميليشيات "قسد" الإرهابية بتسليم المناطق الحدودية بعمق 35 إلى 40 كم للنظام والعمل على التنسيق المشترك بينهما ضد أي عملية أو تصعيد تركي محتمل وهذا على ما يبدو أنه ورغم الخلافات بين أجنحة "قسد" قد يحصل عاجلاً أم آجلاً إن لم يكن حباً بالنظام فكرهاً بتركيا وبنظامها والخوف من النتائج المتوقعة لأي مواجهة عسكرية ستكون على الأغلب وحيدة فيها كما حدث سابقا..؟!
ختاماً.. من خلال ما مر فالخشية من أن يكون كل هذا التصعيد والتهديد وهذه التحشيدات والتحشيدات المضادة على تلك المناطق لا أكثر من مقدِّمات لمكاسب ميدانية وسياسية ستجني ثمارها روسيا ومن خلفها نظام الأسد المجرم؛ يزيدان من خلالها نفوذهما ومناطق سيطرتهما وتقوية أوراقهما على حساب كافة الأطراف المتصارعة منذ أكثر من 10 سنوات، ويكون فيها الخاسر الأكبر -إن صح التعبير- ميليشيات "قسد" الإرهابية التي هي في حقيقة الأمر عادَتْ الثورةَ بل لم تخرج من عباءة النظام حتى بالوجود والدعم الأمريكي الذي هي على يقين بعدم ديمومة وجوده….!