يزخر التراث الشعبي بالعديد من القصص التي تؤرخ حوادث تاريخية أو ترسم صورة لواقع الحياة في زمن من الأزمنة، تروي إحداها عن اعتقال البوليس التركي لأحد المواطنين بتهمة مخالفة القوانين التي تجرّم ارتداء الشماخ/المنديل، فما كان من الرجل إلا أن صرخ فيهم: “ماذا تريدون مني أكثر من وضع ربكم فوق ربي”، في إشارة من الرجل لارتداء الشبقة فوق الشماخ، ما يعطي صورة صارخة لفجور العلمانية، حسَبَ فهم البعض، وتغوُّلها على المجتمع دون قصرها على فصل الدين عن الدولة كما أُرِيدَ لها.
ما أنْ تُطلق عبارة الإرهاب حتى تستقر الصورة الذهنية لدى الكثيرين عند الدين والدين الإسلامي بالخصوص, وإنْ كان الشخص أكثر موضوعية استقرت الصورة لديه عند تيار الإسلام السياسي أو ما بات يُعرف بالجماعات الجهادية أو الجهادية السلفية, دون أن يتبادر لأحد من هؤلاء الإرهاب المُمارَس على عموم المتدينين ممن تسمَّوْا بالعلمانيين وما لهم من العلمانية إلا الاسم, ففي ستينيات القرن الماضي نشرت مجلة جيش الشعب السورية مقالاً لإبراهيم خلاص, أحد ضباط البعث يقول فيها: “إن الديانة هي شيء من الماضي, وهي ليست أكثر من دمى محنّطة في متاحف التاريخ”, كما ضاقت الجدران السورية نهاية سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته بعبارة “لا حكم لله الحكم للبعث” التي خطتها سرايا الدفاع على هذه الجدران لاستفزاز الشعب السوري بأعزّ ما لديه, في طغيان أعمى ومنحرف للعلمانية المرجوّة كإحدى صفات نظام حكم الدولة.
تقوم الأفكار العلمانية على قاعدة فصل المقدس عن المدنس، باعتباره المدخل لتفكيك السلطويات الكهنوتية سياسياً ومجتمعياً التي تتخذ من القدسية الدينية غطاءً للاستبداد والشمولية، غير أن الأفكار العلمانية كثيراً ما تجنح للتطرف من خلال اتخاذها موقفاً رافضاً الاعتراف بحق الآخر في الوجود, وهنا تتساوى مع التطرف باسم الإله، فكِلاهما لا يكتفيان بعدم الاعتراف بالآخر أو بالتخلص منه، ولكنهما يدّعيان امتلاك الحقيقة المطلقة التي تبرر لهما الاستئثار بالسلطة وصنع القرار، ويتحولان نتيجة ذلك إلى نور الشمس على الأرض, والحاكم الناهي بأمر الله أو بأمر العلم والإنسان, وأيّ معارضة لهما هي معارضة لله أو معارضة للعلم والإنسانية, فبمثل ما شهد التاريخ من شموليات دينية, شهد التاريخ الحديث والمعاصر شموليات علمانية لا تختلف في تطرُّفها عن الأولى.
إذ ظهر مفهوم العلمانية إلى الوجود من رحم الثورة الفرنسية عام 1789, والتي عانت من طغيان الكنيسة والكهنوت الديني على الدولة والمجتمع الفرنسييْنِ, ما أدى لاستبداد الدولة وتخلف المجتمع, مما دفع الثوار الفرنسيين للتطرف في مواجهة الدين, من خلال عمليات قتل العديد من الرهبان ونهب الأديرة, بالإضافة لمصادرة أملاك الكنيسة على الأراضي الفرنسية, وعلى الرغم من تراجُع الحكم البونابرتي عن العديد من القرارات والإجراءات المناهضة للكنيسة, إلا أن العلاقة بين الجمهورية الفرنسية والكنيسة لم تستقر إلا بعد صدور قانون 1905.
قامت الثورة الروسية والبلشفية من بعدها بما قامت به الثورة الفرنسية تجاه الكنيسة ورجالها والمؤمنين بالدين بالمطلق, إذ نظر البلاشفة لرجال الدين والمتدينين عموماً نظرتهم للراهب الفاسق راسبوتين, بالإضافة لما تحمله الأيديولوجية البلشفية في بنيتها من مادية جدلية معادية للدين, حملها البلاشفة معهم إلى السلطة وفرضوها على المجتمع, مما شكّل غمامة كثيفة غطت الفضاء السوفيتي وأمطرته بالقمع الديني على امتداد الجمهوريات السوفييتية بشرائعها المختلفة, الإسلامية والمسيحية, ولم تنقشع عنها إلا بزوال الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد دوله.
خطّت الجمهورية التركية أول خطوط العلمانية في الدول المسلمة, وقد سقطت فيما سقط به الفرنسيون والسوفييت من أخطاء معاداة الدين ومحاربته في المجتمع, فلأسباب سياسية تكتيكية قام الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك, خلال قيادته لتحرير بلاده, بفتح ساحة الصراع مع الخليفة/السلطان القابع تحت سلطة ووصاية الاحتلال الإنكليزي لنزع الرداء الديني عنه, غير أن القرارات التي تبعت مرحلة الاستقلال تجاوزت الخطوات السياسية التكتيكية لتتأطر ضمن مسار مواجهة الدين الشعبي في المجتمع. وعلى مقربة منه قام الشاه الإيراني رضا بهلوي في مسيرته لتحديث المملكة الإيرانية بالاستقاء من التجربة التركية, وفي طريقه لتحجيم المؤسسة الدينية المتنفذة في الفضاء الإيراني أصدر العديد من القرارات التي تجاوزت أهداف تحديث الدولة وتقوية مركزها في مواجهة المؤسسة الدينية إلى التدخل في الزي الخاص برجال الدين ومواطني المملكة بالعموم, وإذا لم تخنِّ الذاكرة جرى العديد من عمليات الانتحار خلال تلك الفترة, من نساء إحداهن زوجة مسؤول إيراني كبير, نتيجة لإجبار النساء على السفور ونزع الشادور الذي يقف حاجزاً أمام تقدُّم الدولة, بحسب الفهم الصبياني للعلمانية, التي فسروها على أنها المحاربة للدين والتقاليد الاجتماعية.
قامت دولة الإسلام الأولى على المبدأ العلماني, لناحية استقلال الدين عن الدولة, مع تأطير الأحكام والقِيَم الدينية كمرجعية للقضاء والفصل في المنازعات وليس وسيلة للحكم, ومما تذكره كتب التاريخ أن الخليفة عمر بن الخطاب, رضي الله استغفر ربه وقال: اللَّهمَّ إِنِّي أَرْشَدْتُ، ولم أُكْرِهْ, بعد قوله لامرأة نصرانية كانت لها حاجةٌ عنده: أسلمي؛ تسلمي، إِنَّ الله بعث محمَّداً بالحقِّ، إذ خشي الفاروق أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إِكراهها على الإِسلام.
يحتجب الحاكم المسلم عن التدخل بعقيدة المجتمع مع ما يقوم به من تصويب لأخطاء إخوانه في الدين, بينما يقفز صبيان العلمانية إلى المجتمع للتدخل بعقائده وقِيَمه الأخلاقية والاجتماعية, مع ممارسة القَسْر والإكراه على المجتمع بغية سلخه عن عقيدته وتاريخه أو قيمه الأخلاقية والاجتماعية إلى تدخُّلهم في الزي الاجتماعي والمظهر الشخصي لأفراد المجتمع.
يستقي الإرهابان الديني والعلماني من المشارب ذاتها من تصيُّد الأخطاء الفردية لدى الآخر وتعميمها على المجموع, إلى ليّ عنق النصوص الدينية/العلمانية وتفسيرها بما يؤيد تطرُّفهما ومحاولة فرضها على المجتمع برُمَّته معارضاً وموافقاً وحيادياً, فالعلماني صاحب رؤية أُحادية يريد تطبيقها على الجميع، حتى لو كان العالم متعدد الألوان والمشارب، فبالرغم من أن العلمانية لا علاقة لها بالنصوص المقدسة، إلا أنها تقع في الحفرة ذاتها، والتي تقع فيها الحركات الدينية المتطرفة, عندما تتعاطى مع التنوير الإنساني على أن نصوصه مُقدَّسة.