يتذكر السوريون كارثة حدثت في وقت مبكر، يمكن اعتبارها أكبر علامات الشؤم من مرحلة حكم بشار الأسد، فانهيار سد زيزون في 4 حزيران/ يونيو من عام 2002، أي بعد سنتين من توليه السلطة وراثة عن أبيه، لم يتم النظر إليه عموماً على أنه كارثة وطنية، تستحق الوقوف عندها، وتحليل أسبابها، ونشر نتائج التحقيق فيها، ومحاسبة المسؤولين عنها، والاستفادة من دروسها للانتقال إلى عملية إصلاحية جزئية أو جذرية، تتكفل الحفاظ على المشاريع الحيوية الإستراتيجية المغذية للاقتصاد المحلي، والمؤثرة في حياة السوريين.
لم ينكر الإعلام الرسمي آنذاك وقوع انهيار في سد زيزون، لكنه وصفها بالحادثة. وكعادة المؤسسات السورية المحكومة بالعقلية الأمنية، كان تقليلها لشأن الانهيار يرمي إلى حماية الوطن، ما يعني أن كشف حقائق الأمر سيؤدي إلى تعرُّض البلاد إلى أخطار أمنية!
وضمن هذا السياق لم يتم الإعلان عن الخسائر البشرية والأضرار المادية التي أحدثها انهيار جزء من كتلة السد الترابي. وأتذكر أن زملاء صحفيين تعرضوا للمساءلة الأمنية، بعد أن حاولوا تقصي الحقائق عما جرى في ذلك اليوم!
فعلياً، وبعد ما يناهز مرور عقدين من مأساة قرية زيزون التي انهارت بيوتها، وكذلك بيوت القرى الأخرى المتضررة، فور تدفق 70 مليون متر مكعب من الماء، غمرت 60 كيلومترا مربعاً، يمكن العثور على معلومات مهمة في أبحاث تم نشرها منذ زمن قصير نسبياً، مثل دراسة مجموعة الباحثين السوريين، لكن الوصول إلى مثل هذا الوضوح في بيان الأرقام والتفاصيل، احتاج وفق الإيقاع السوري والذي يبنى على الصراع مع العقلية الأمنية والأجهزة والبنية القروسطية لطبيعة النظام، إلى عقدين من السنين تقريباً، بينما سينشغل العالم كله بوقائع كوارث أقل حجماً فيما لو كان الفضاء في البلد الذي وقعت فيه مفتوحاً على العالم ولا يمنع الوسائل الإعلامية من الوصول إلى التفاصيل، مع حريات التنقل، ولقاء الشهود، ومقابلة المسؤولين وغير ذلك.
بعيداً عن كارثة زيزون، وقريباً من كوارث أخرى، في زمن الأسد الابن، الذي صار سلسلة كوارث غير منتهية للشعب السوري، يحدث أن يتسرب الفيول (سائل نفطي ثقيل يحرق في الفرن أو المرجل لتوليد الحرارة أو لتوليد الطاقة الكهربائية أو التحريكية) من خزان في محطة توليد بانياس الحرارية في محافظة طرطوس، إثر تعرضه لثقب وفتحة في أسفله، ويسيل إلى الشاطئ، فيختلط بماء البحر، مُشكِّلاً بقعة نفطية كبيرة، ستصل إلى ساحل مدينة جبلة شمالاً، أي أنها قطعت مسافة تقدر بـ25 كلم، وسيسارع النظام بأجهزته المحلية (بلديات ومحافظات) إلى التقليل من شأن القضية الجديدة، فيصدر تصريح يقول بأن كمية الفيول المتسربة لا تتجاوز الـ4 أطنان، بينما سيتكشف الأمر عن واقع كارثة بيئية مهولة، إذ ستسارع حكومتا قبرص الشمالية والجنوبية إلى إعلان الوقائع، التي ستترافق مع صور تم التقاطها عبر الأقمار الصناعية، توضح الامتداد الكبير للبقعة النفطية، والتي تصل إلى 800 كلم مربع، ما يعني أن ثمة وحشاً فتاكاً للبيئة البحرية يتجول في شرق البحر المتوسط!
آخِر التصريحات المحلية حول الكارثة، جاءت على لسان وزير الكهرباء في حكومة نظام الأسد، غسان الزامل، الذي أعاد الحديث عن تسرب 4 أطنان من الفيول، ولكنه أضاف بأن الصور المتداولة لحجم البقعة "مزيفة تحمل تهويلاً كبيراً بقصد الإساءة"!!.
أحدٌ من جهة المؤيدين لم ولن يجيب الوزير بأن ما تم نشره وعَبْر وكالة سانا الرسمية من صور مضحكة تظهر العقلية المستخفة بالكارثة، هي ما جاء بالإساءة للنظام الذي يمثله، فتنظيف الشاطئ بأدوات بدائية، وعَبْر عمال البلدية، لا يؤشر إلى آلية إدارة متراكمة لعشرات السنين فقط، بل يقود إلى أوسع من ذلك، أي إلى جذر المنطق الذي حكم كارثة سد زيزون، فالإنكار ثم الإنكار، هو الأمر الذي تصدره الأجهزة الأمنية، والزمن يتكفل بنسيان القصة!
غير أن حسابات رجال الأمن في إدارة الشؤون المحلية، التي لم تتغير بعد عقد من السنين، شهدت فيها البلاد ثورة وحرباً دامية، ستفشل هذه المرة في وضع القصة على سكة النسيان البعثي، فهي لا تتعلق بشأن محلي فقط، بل إنها شأن محلي عابر للحدود، ويمتلك حرية الحركة من خلال البحر المفتوح!
الشكوى المحلية من أن حكومة تكذب حين تقطع الكهرباء بحجة عدم توفر الفيول، بينما يصرح وزير الكهرباء بأن خزان الفيول المتضرر سعته 20 ألف طن، وكان فيه نحو 15900 طن، ستتحول إلى فضيحة دولية، وإلى بؤرة أذى بيئي، مع تهديد البقعة النفطية لشواطئ الدول التي تتشارك البحر المتوسط، مع سورية!
وضمن مسار التحول من مشكلة محلية، إلى مشكلة دولية، ستنهار العقلية الأمنية في إدارة الموضوع، لينكشف المشهد عن فظاعة وقبح غير متناهييْنِ، حكما البلاد طيلة عشرات السنين.
فما كان يُغطى بورق الأشجار، كما يفعل العمال على شاطئ جبلة لإزالة الفيول، لن يستطيع أحد أن يستره، أمام الجيران حول سورية.
وبدلاً من التعاطي البليد مع منتجات الأسد في أذيته للسوريين، سيجد هؤلاء أنفسهم أمام أذى أكبر، فإقفال الحدود أمام اللاجئين، ومتابعة بواخر تهريب الكبتاغون والمخدرات الأخرى، سيبدوان مجرد تسلية أمام دمار بيئي، يتسبب به نظام، يتسلى بقتل الآخرين بأسلحة كيميائية، ويسمح لروسيا أن تجرب أسلحتها الجديدة بهم.
فهل سيعرفون الآن ما هو نظام الأسد؟