رغم الانهيارات في الحياة السورية اقتصادياً واجتماعيا،… دأبت منظومة الاستبداد على التصرف وكأن الأمور في سورية طبيعية؛ وهنا يسارع المراقب والمتابع لوصف سلوك كهذا بالانفصام عن الواقع، ولكن دون الغوص في جذر وطبيعة وأسباب سلوك كهذا؛ فرأس “النظام” يقول: إن لا معتقلين سياسيين لديه؛ والمعارضة تمثّل تركيا؛ والعودة للجامعة العربية لصالح الجامعة. رغم الابتهاج حتى بلقاء مسؤول من الدرجة السابعة من دولة أخرى.
وأكثر ما يعكس الانفصام الذي يتجلى بالوضع الاقتصادي المدمّر وحياة السوريين التي لا تطاق من الفاقة، بوجود مجموعة تلعب بملايين الدولارات، وتلوم العقوبات كمتسبب بالعَوَز والتدهور. سلوك “النظام” هذا لا يتم فقط بشكل تلقائي، بحكم طبيعة الاستبداد الإجرامية؛ حيث التخريب والترهيب مسألة طبيعية؛ بل يعكس إصراره على المكابرة والتحدي كعصابة مارقة.
تحمّسَ الأردن، وتواصل مع أمريكا وغيرها لإعادة تأهيل “نظام الأسد” تحت يافطة إنقاذ الشعب السوري، وإبعاد “النظام” عن إيران، وتيسير مرور الغاز المصري عبر سورية إلى لبنان دون التعرض لعقوبات قيصر؛ وكانت مكافأته من “النظام” تهريب المخدرات والأسلحة إلى الأردن، واقتراب أكثر لميليشيات إيران للعبث في الداخل الأردني.
والنتيجة إغلاق الأردن لملف التطبيع. وهكذا أضحى “النظام” ليس فقط خطراً على الأردن كجار، وعلى الخليج حيث تتجه سموم مخدراته، بل خطراً دولياً عبر تحوّله إلى مركز لصناعة المخدرات وتسويقها.
روسيا – أهم حامٍ للنظام سياسياً وعسكرياً – في ورطة قاتلة، مهما كابرت. فعندما يُمنع “لافروف” من المرور في أجواء دولية، وعندما تتحول مدة غزو أوكرانيا من أيام إلى وقت مفتوح، وعندما يحتدم شِبه الإجماع العالمي على هزيمة بوتين؛ فهو بحاجة لحماية نفسه، ليتمكن من حماية أحد.
وما تعمق الغزل مع تركيا، وإخلاء مواقعه في سورية، وترك الحبل على الغارب لإسرائيل، إلا دلائل على مأزومية الحامي، تصيب منظومة الأسد في مقتل. من جانب آخر، فتحت جرائم بوتين في أوكرانيا أعين العالم على القضية السورية؛ وكان لإعلان منظومة الاستبداد الوقوف إلى جانب الغزو الروسي -رغم تفاهتها- أثر كبير في إعادة حضور مواجع سورية والسوريين على أيديهما دولياً.
سُمِع الكثير من التصريحات الأمريكية؛ وأهلَكَت السوريين الرخاوة المقصودة لإدارات أمريكا المتعاقبة؛ ولكن القناعات والنَفَس الذي ساد جلسة الاستماع للجنة العلاقات الخارجية للكونغرس الأمريكي، والموقف تجاه نظام الأسد لا يعِد بأية احتمالية لإعادة تأهيل “نظام الأسد”.
تلك الجلسة أعادت صور “قيصر” حيّة إلى الأذهان مرفقة بشهادة “حفار القبور”؛ وأعادت التشديد على تفعيل قانون قيصر؛ والإصرار على المحاسبة. ومن هنا، فإن أي محاولة لإعادة التأهيل أضحت في مهب الريح.
الوضع الأمني والاقتصادي الداخلي في إيران، واستهداف بعض القادة العسكريين والخبراء النوويين، وتعثر مفاوضات النووي في فيينا، واجتماع هيئة الطاقة الذرية، واستنفار إسرائيل من منسوب التخصيب الإيراني، والانكشاف الزائد للقوة الإيرانية الساعية لملء الفراغ الذي تتركه روسيا في سورية، والمسعى الغربي والأردني لكسر الجسر الإيراني في منطقة “التنف” السورية… كل ذلك يجعل نظام الملالي في حالة اهتزاز يحتاج لحماية ذاته وغير قادر على حماية “نظام الأسد” الذي أسرع إليه مستغيثا كاسراً علناً أحد شروط إعادة تأهيله بالابتعاد عنه.
يشكل الوضع الاقتصادي الكارثي في سورية والتذمُّر العلني لحاضنة النظام، والبذخ الوقح الذي يعيشه أمراء الحرب، في وقت يصبح هاجس السوري وأقصى طموحه لقمة عيش، ولو مغمّسة بالذل… كل ذلك يشكّل مؤشرات على النهاية المحتمة. من جانب آخر، وعندما يُخرج نظام الاستبداد أكواماً من العظام والعقول والنفوس المنهكة بقيت حية في معتقلاته بعد كل هذه السنوات، ويشيع أنه يطلق سراح معتقلين فذلك فضيحة له، ولا تقنع إلا جاهلاً أو خبيثاً بأن النظام “يغيّر سلوكه” أو قابل لإعادة التأهيل. وما المراسيم وقوانين التعذيب إلا زيادة في التزييف والتضليل.
إجراءات منظومة الاستبداد في إصدار مراسيم عفو، وقوانين تجريم التعذيب، وانخراط شكلي في عملية سياسية، لم تخدع أحداً؛ فهو غير مصَمَّمٍ ليعفو، ولا يستطيع البقاء دون تعذيب، ولم يرَ أو يصوّر العملية السياسية إلا جزءاً من المؤامرة الدولية تستخدم “خونة لوطنهم وعملاء لدول” لأخذ ما لم يتم الحصول عليه بالإرهاب.
للأسف لا علاقة للسوريين بوقف مشروع إعادة تأهيل منظومة الاستبداد، وخاصة على صعيد مؤسسات معارضتهم الرسمية؛ فمجرد اشتراك تلك المؤسسات بالحضور المجاني العبثي في الدستورية و”أستانا” يمنح المنظومة غطاءً مزوراً بأنها منخرطة، حيث أحد شروط “إعادة تأهيل النظام”، تستلزم انخراطه.
إن النتيجة الصفرية لسنوات من “التفاوض” تعكس وتوثّق عرقلة “النظام” للعملية السياسية. فإذا كان رأس النظام يعتبر وفد السوريين الذين يذهبون إلى جنيف يمثلون تركيا، فلا يمكن لأي نتيجة أن تتمخض عن عمل كهذا. ومعروف أنه سبق وصرّح مسؤولون في هذا “النظام” أن الأمر ليس أكثر من لعبة تكتيكية.
من جانب آخر، وفي الحقيقة والواقع، ثَبَت أن هذه العملية عبثية وبلا جدوى؛ وأصبحت جزءاً من خطة النظام وداعميه، وتساهم بزهق حق السوريين وتضييع قضيتهم. ومن هنا، لا بُدّ من إعادة النظر بكل ما هو قائم على صعيد العملية السياسية، والانطلاق بإستراتيجية جديدة.
بناءً على كل ذلك، على مَن لا زالوا في الثورة السورية العمل داخلياً على إعادة رصّ الصفوف وعقد مؤتمر عامّ، والإبقاء على كل الخيارات مفتوحة حتى العسكري منها؛ ومخاطبة السوريين في الداخل والشتات بمقاربات مختلفة.
وعلى الصعيد الخارجي، استغلال الظرف الدولي، وخاصة تجريم روسيا بحربها على أوكرانيا، وإعادة كشف جرائمها التي ارتكبتها في سورية على كل الصُّعُد بشكل فاق ما ترتكبه في أوكرانيا؛ والتوجه إلى الأمم المتحدة والدول الفاعلة لجعل مبعوثها يختار بين التستُّر على النظام والدعاية غير المباشرة له- وبذا عزله، أو التطبيق الحرفي للقرارات الدولية الخاصة بسورية.