نداء بوست- ملفات- محمد ألغان – روج جيراسون
بسبب الموجة المعادية للاجئين المتزايدة مؤخراً، أصبح العرب السوريون أحد البنود الرئيسية في السياسة التركية. وبغضّ النظر عن النقاشات حول إرسالهم إلى سورية أو اندماجهم في المجتمع التركي، سيصبح اللاجئون السوريون سكاناً مستقرين في تركيا في الفترة المقبلة. ومن الصعب اليوم توقُّع ما إذا كان السوريون سيتكيَّفون مع مقاربة سياسية “متحمّسة للتركيّة” على غرار عرب تركيا، أو ما إذا كانوا سيسلكون طريقاً ينقلون مطالبهم بهُوِيَّتهم إلى المستوى السياسي.
مايو 2022
حدثت تطوُّرات مهمة في بداية القرنين التاسع عشر والعشرين في الجغرافيا العربية التابعة للدولة العثمانية بسبب الحرب العالمية الأولى واحتلال الدول الغربية والثورات المحلية الناجمة عن الفكر القومي. وكنتيجة طبيعية لهذا الوضع، ظهر نهج تَمَحْوَر أكثر حول دولة قومية بين النخب العثمانية بدلاً من وصفات الإنقاذ مثل العثمانية والإسلاموية. هذا النهج جلب معه إنشاء حدود جنوبية لإخراج العرب من أجل بقاء الدولة. مع ذلك لم تتمكن تلك النخب من إخراج جميع العرب الذين يعيشون في الدولة العثمانية إلى خارج حدود الدولة الحديثة. وما يزال العرب يُشكِّلون عنصراً ديموغرافيّاً مهماً في الجمهورية التركية في القرن الجديد.
حقبة الحزب الواحد
كان مفهوم الدولة القومية الجديدة، الذي أدى إلى تآكُل الروابط التاريخية الثقافية والسياسية والتجارية، كان يحتوي على تغيير مهمّ لجميع شعوب الشرق الأوسط. فمثلاً هاجر الأكراد والعرب والأتراك والآشوريون والأرمن والروم الأرثوذكس الذين عاشوا في المقاطعات الشرقية والجنوبية في تركيا إلى دول الجوار خلال فترة الحزب الواحد، بسبب الضعف الذي سبَّبته الحرب العالمية الأولى وحرب الاستقلال، إضافة إلى إهمال الحكومة المركزية. وهاجر عدد كبير من العرب إلى سورية التي كانت تحت الحكم الفرنسي أو إلى لبنان أو العراق التي كانت تحت الحكم البريطاني لأسباب مادية. كما لعبت ممارسات الدولة القمعية والحملات ذات الشعار “المواطنون يتحدثون التركية” وفترة الخدمة العسكرية الطويلة دوراً في هذه الهجرات. على سبيل المثال كتبت الأمانة العامة لحزب الشعب الجمهوري إلى وزارة الداخلية في عام 1942، ما نصّه: “يجب حظر الأفلام المُخرَجة باللغة العربية؛ لأنها تحظى بشعبية كبيرة في أضنة ومرسين وتقوض اللغة التركية”. مع ذلك لم تنقطع روابط القرابة بين العرب الموجودين في تركيا والعرب المهاجرين إلى القامشلي وحلب في سورية وبيروت في لبنان والموصل وبغداد في العراق في فترة الحزب الواحد.
وفي عام 1939، أي قبل الحرب العالمية الثانية ألحقت تركيا مدينة أنطاكيا معتبرة إياها “آخِر جزء من الوطن” إلى أراضيها مستفيدة من النزاعات بين الدول، وهي تمثل أقصى حدودها الجنوبية اليوم. ولكن فضّل العلويون العرب الذين يمثّلون نسبة كبيرة من سكان المدينة، البقاء فيها بدلاً من الهجرة إلى سورية ولبنان بسبب ارتباطهم بالأرض وافتقارهم إلى الوعي السياسي. وقد أدى هذا إلى زيادة عدد السكان العرب في تركيا. وباتت مخاوف الدولة بشأن السكان العرب الذين يعيشون في المنطقة تتكرر من وقت لآخر، مع أنها تراهم “متحمسين للتركية أكثر” أو “لا يثيرون القلق” مقارنة بالسكان الأكراد الذين يعيشون معهم في شرق وجنوب شرق الأناضول.
ظروف الحرب الباردة
أدى انتهاء الحرب العالمية الثانية والانتقال السريع إلى الحرب الباردة إلى تغيير علاقات تركيا مع الدول المجاورة في الجنوب. اشتد التنافس بين تركيا والدول العربية التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية بسبب بعض العوامل، منها: انضمام تركيا إلى الناتو بعد عامين من وصول الحزب الديمقراطي إلى السلطة عام 1950، وتأثر الدول العربية من الاشتراكية والقومية العربية وبقائها في كتل مختلفة من أطراف الحرب الباردة. ووصل هذا التنافس إلى درجة أن الحكومة التركية منعت من نشر خطابات جمال عبد الناصر في الإذاعات في الولايات الجنوبية خوفاً من انعكاس الخطاب القومي الجديد على المواطنين الأتراك العرب. كما أدت بعض العوامل إلى تعزيز هذه المخاوف منها: سياسة التلقين العقائدي للدولة في ذلك الوقت، ومعدل الالتحاق بالمدارس، والنفوذ الإعلامي، والروابط القوية بين العرب في تركيا وبين أقاربهم في الجنوب.
تسببت الهزيمة الكبرى للدول العربية في الحروب العربية الإسرائيلية بعد السبعينيات في تدهور ظاهرة القومية العربية على نطاق إقليمي. في نفس الفترة بدأ اندماج السكان العرب الأتراك بالظهور بشكل أكثر مع الدولة، مما أدى إلى تقليل مخاوف الدولة، وبدا العرب كمجموعة ديموغرافية أكثر إيجابية وانسجاماً. كما حال المشهد الناتج عن ذلك دون الحاجة إلى إجراء تقييم منفصل للعرب الأتراك عن عامة السكان الأتراك.
التركيبة السكانية المبعثرة وغير المتجانسة
ينقسم عرب تركيا اليوم إلى قسمين: عرب الشام يتألفون من العلويين والسُّنة والعرب المسيحيين الذين يعيشون في أنطاكيا وأضنة ومرسين في منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ وعرب بلاد الرافدين الذين ينتمون إلى المذهب الشافعي السُّني والذين يعيشون في مناطق جنوب شرق وشرق الأناضول. وبعد السبعينيات عندما تسارعت الهجرة من القرية إلى المدينة، فضل العرب المدن الكبرى في الغرب والشمال مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وكوجالي وبورصة وأضنة ومرسين، بدلاً من المدن العربية التي هاجروا إليها في الماضي، وأصبحوا أكثر تشتُّتاً وغير متجانسين ديموغرافيّاً.
وقد قامت المؤسسات الرسمية والمراكز البحثية والدراسات الأكاديمية منذ عام 1927 بدراسات وبحوث للكشف عن الخصائص الثقافية والانتماءات العرقية للهُوِيَّات المختلفة التي تعيش في تركيا، وتم إجراء قياسات إحصائية مختلفة، بشكل عامّ على أساس اللغة الأم.
وحسب الدراسات التي أُجريت بين عامَيْ 1927 و 1965، حول تعداد السكان فإن اللغة العربية هي اللغة الأم الثانية بعد الكردية في ترتيب اللغات الأم المختلفة في تركيا، بمعدل يتراوح بين 0.99% و 1.16% وحسب التعداد عام 1927 فإن عدد الأشخاص الذين قالوا: إن لغتهم الأم هي العربية هو 134.931 (0.99%). وقد زاد هذا العدد في التعدادات التي أُجريت لاحقاً . وفي التعداد الذي سُئل عن اللغة الأم آخِر مرة في عام 1965، كان عدد هؤلاء 364.140 ( 1.16%).
وحسب استطلاع الرأي حول السكان والصحة في تركيا ( TNSA -1998 / TNSA2003 )، الذي أجرته جامعة “حاجت تبه” في عامَيْ 1998 و 2003، واشتمل على أسئلة اللغة الأم لتحديد المجموعة العرقية، فإن توزيع مجموعة اللغة العربية كاللغة الأم في تركيا كالتالي:
إن اللغة الأم ليست المحدِّد الوحيد للإثنية وهناك أدوات أخرى لتحديدها، لذلك يمكن تقدير أن عدد السكان العرب في تركيا اليوم ما بين 2 و 2.5 مليون نسمة.
ترجيح التصويت لعرب تركيا
إن السلوك الانتخابي للعرب المقيمين في تركيا لا يشبه سلوك التصويت عند الأتراك عموماً والأكراد خصوصاً، والذين يصوتون للأحزاب والمرشحين الداعمين لسياسات الهُوِيَّة. ويختلف سلوك التصويت عند العرب السُّنة عن سلوك العرب العلويين.
ففي المناطق التي يعيش فيها العرب السُّنة مثل ريحانلي وكوملو وآلتون أوزو التابعة لأنطاكيا؛ وفي حران وأقجه قلعة وأيوبية التابعة لمحافظة أورفا؛ وفي ميديات ويشيللي وأرتوكلو التابعة لمحافظة ماردين، يحصل حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية على أغلب الأصوات في الأحياء التي يشكل العرب السُّنة الأغلبية. إضافة إلى ذلك فإن الناخبين من ذوي الهُوِيَّة العربية السُّنية الذين يعيشون في هذه المناطق لا يجدون صعوبة في التكيف مع القومية التركية ورموز القوة، وتعتبر هذه المناطق الانتخابية في طليعة المناطق التي حصل فيها تحالُف الشعب على نسبة عالية في الأصوات.
وعند النظر إلى متوسط 10 مدن بما في ذلك عثمانية ويوزغات وقيريق قلعة وقيصرية ونيغده، حيث حصل حزب الحركة القومية على أعلى الأصوات في انتخابات 2018، نجد الأحياء العربية السنية تتفوق حتى على هذه المدن في نسبة التصويت.
إلّا أنّ صورة مختلفة تماماً تظهر في المدن والأحياء التي يعيش فيها غالبية السكان العرب العلويين الذين يسمون النصيريين. يُلاحظ أن الطائفية هنا قد غيّرت السلوك الانتخابي بشكل شِبه كامل. فعلى عكس المناطق السُّنية العربية التي يحصل تحالُف الشعب على الأغلبية الساحقة من الأصوات، فإن جميع العلويين العرب تقريباً يميلون إلى حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي. ويُمكن القول: إنّ آثار الحرب السورية لعبت دوراً حاسماً في السلوك الانتخابي في هذه المنطقة التي تُعتبر مُعارِضة لحزب العدالة والتنمية بشدّة.
يُمكن صياغة ثلاثة اتجاهات قد تفسر تقارُب العرب السُّنة من تحالُف الشعب والخط القومي، وتقارُب العرب العلويين من حزب الشعب الجمهوري واليسار بشكل عامّ، على النحو التالي:
الاتجاه السياسي العامّ بين العرب الذين يعيشون في منطقة ذات أغلبية كردية هو التقارُب من الخطاب الرسمي والنظام ضد الكردية.
الاتجاه العامّ بين العرب الذين يعيشون في بيئة يهيمن عليها الأتراك هو التقارب من الفكر القومي منعاً للإقصاء والحرمان من التركية.
الاتجاه العامّ بين العرب العلويين هو التقارب من الاتجاهات السياسية العلمانية الكمالية واليسارية ضد البِنْية السُّنية.
تُظهر هذه الاتجاهات الثلاثة أن هناك إستراتيجية وجودية قَيْد التداول، إضافة إلى رد الفعل الذي طورته الجماهير ضد الخطوط الفاصلة السائدة في الأماكن التي يعيشون فيها.
قضية العرب السوريين واللاجئين
أدى وصول الربيع العربي الذي بدأ عام 2010 إلى سورية وتحوُّله إلى حرب أهلية بعد فترة، للجوء عدد كبير من السوريين إلى تركيا في السنوات الأخيرة. تُشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 6 ملايين سوري يعيشون في تركيا اليوم، خاصة في المحافظات الحدودية والمدن الكبرى المجاورة لسورية. بسبب الموجة المعادية للاجئين المتزايدة مؤخراً، أصبح العرب السوريون أحد البنود الرئيسية في السياسة التركية. بغضّ النظر عن النقاشات حول إرسالهم إلى سورية أو اندماجهم في المجتمع التركي، سيصبح اللاجئون السوريون سكاناً مستقرين في تركيا في الفترة المقبلة. من الصعب اليوم توقُّع ما إذا كان السوريون سيتكيفون مع مقاربة سياسية “متحمّسة للتركية” على غرار عرب تركيا، أو ما إذا كانوا سيسلكون طريقاً ينقلون مطالبهم بهُوِيَّتهم إلى المستوى السياسي.
هناك أكثر من 5 ملايين سوري في تركيا مرشحون للانضمام إلى العرب المستقرين، والذين تتراوح أعدادهم بين 2 و 2.5 مليون. قد يذكِّر هذا اللقاء عرب تركيا بالهُوِيَّة العربية مرة أخرى، والذين يبدو أنهم اندمجوا في التركية.
من الأفضل أن تتخلص تركيا من تصوُّر التطوُّرات التي حدثت في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية على أنها خيانة، وثقافة بدوية، ومناقشات حول اللاجئين السوريين، وصورة العرب التي يمكن تلخيصها بأثرياء دول الخليج العربي.
يبدو أن قضية اللاجئين، التي قد تكون أهمّ مشكلة للهُوِيَّة في تركيا في ظل صعود وجراءة السياسة العنصرية، ستفتح مساحة للنقاش حول الهُوِيَّة في تركيا -التي كانت متعلقة بالقضية الكردية- بأبعاد مختلفة في الفترة الجديدة.
روج جيراسون
باحث، عمل إداري في مناصب مختلفة في منظمات المجتمع المدني، كما شارك في العديد من الأبحاث التي أجريت من قبل مؤسسات مختلفة، منذ عام 2012 وحتى يومنا هذا. يشغل منصب المدير العام لمركز رويست للأبحاث منذ عام 2018.
محمد ألغان
ولد في بيروت عام 1986، وتخرج من جامعة يلدز التقنية تخصص علم التركيات، عمل كنائب في البرلمان التركي عن ولاية هاتاي للدورة 25.