نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
رغم متوالية السنين، منذ أصبحوا لاجئين، فما يزال الحنين عند السوريين في الأردن، هو الحنين.
الجار أبو محمد الهارب بأهله وعرضه وأحلام أطفاله من مدينة الزبداني بعدما أصبح أفقها الممتد في خطر، وحاصرتها، إضافة لجيش النظام وشبيحته، قوى خارجية منها حزب الله اللبناني.
التارك بِلَوْعَةٍ مراتع الصبا نحو العاصمة الأردنية عمّان، يحدثنا بأشواق وحنين، عن طقوس يوم الجمعة في الزبداني وما حولها “كل واحد عنده بستانه ومياته وأكلاته” يؤكد أبو محمد الذي كان استهل حديثه بتشابه الطقوس الخاصة بهذا اليوم بين أهل الأردن وبين أهل سورية، ثم يعدد الأمكنة التي كانوا يرتدانوها بما تحتويه من ماء وخضراء واستقبال حسن: “بردى، بلودان، بقين، مية أبو زاد، مية العرق “نبع العرق” بمياهه العذبة الغزيرة”.
يتذكّر أبو محمد وقد بدأ صوته يتحشرج: “السمك في نهر بردى.. سد زرزر، شخاتير ومياه وشجر داير ما يدور”. ثم يسأل بأسى: “وين بدك تروح في الأردن؟ وادي الشتا مليان دود وهناك رسوم؛ دينار عند كل فرد من أفراد الأسرة، يعني بالنسبة لي بدي أدفع تسعة دنانير (تتكوّن أسرة أبي محمد من تسعة أفراد؛ أربعة أولاد وثلاث بنات وهو وزوجته). وهادا لسّا ما شفنا شي ولا عملنا شي، رسم للدخول فقط، وممكن تحصل على بعض الكراسي البلاستيك، وهي مسابقة كمان، يعني يا بتلحق كرسي يا ما بتلحق.. وبعديها بيجي الدور على الدود.. كنا وين وصرنا وين”.
في سورية، بحسب أبو محمد، ثقافة الحدائق العامة، بتشمل الجميع، ويحرص عليها الجميع، “حتى لو براد شاي مجهز بالبيت، ما علي ما فيها شي، بتحمله العيلة بالليلة وبتروح على شي حديقة من الحدائق العامة.. براد شاي.. تيرموس قهوة.. المهم السيران يوم الجمعة، لأنه كان شبه مقدس، ولا بد منه في عطلة آخر الأسبوع”.
الزميل الصحفي إياد التنمبكجي ابن الشام المقيم في الأردن، والمتعاون ببعض المواد الصحفية مع موقع “تلفزيون سوريا، يعمل منذ العام 2004، وهو ما يزال طالباً جامعياً في سنته الدراسية الأولى، في حقل المطاعم والحلويات، وبالتالي حرم من طقوس يوم الجمعة، مبكراً، في مستهل شبابه، “بتحز بنفسي كانت عطلة يوم الجمعة للأمانة، وكبرت ووعيت وصار تعلقي بعطلة قلب الأسبوع، وليس عطلة يوم الجمعة التي حرمت منها، فعمل المطاعم والحلويات يتضاعف أيام الجمع، وتمنع الإجازات في هذا اليوم، ليس هذا اليوم فقط، ولكن معظمها يمنع العطل خميس وجمعة وسبت، إلا في الحالات الطارئة جداً.. جداً”.
يقول التنمبكجي: “فئة كبيرة من السوريين الذي استقروا في الأردن ولم تكن بالنسبة لهم بلد ممر، يعملون في قطاع المطاعم والحلويات، وهو قطاع تجرأ عليه كثير من الدخلاء، يعني في ناس ما كانت هاي الشغلة شغلتها في سورية، في ناس حرفيون، موظفون، تجار، وصحاب المحلات، هؤلاء جميعهم لا يعملون يوم الجمعة، فهي عطلتهم الوحيدة من بين باقي أيام الأسبوع، باستثناء بعض الموظفين الذين يعطلون يوم السبت إضافة ليوم الجمعة، وبالتالي يخصص السوريون بمعظمهم يوم الجمعة للرحلات للأماكن التي يعرفها حتى أبناء البلدان العربية الذين تعودوا على زيارة سورية من باب السياحة، مثل الربوة، بلودان، الزبداني، عين الخضرة، وعموم المناطق التي جرت العادة أن تحيي في الصيف المهرجانات والاحتفالات وتشاع فيها أجواء الفرح والبهجة. وحتى يومنا هذا أتذكر ونحن صغار كيف كنّا ننتظر مرور القطار. بالنسبة للسوريين في الأردن موضوع السيران يوم الجمعة صعب عليهم لعدة أسباب: أولها الوضع المادي الذي هو فوق كل شي، فالسيران كما نسميه بسورية الرحلة الداخلية مع العيلة لم يكن مكلفاً هناك، ولمّا رِفقات يتفقوا بنطلع إي بنطلع ياللا بنطلع، كانوا يقرون ذلك بسرعة وبدون كثير تفكير لأن الموضوع أبداً مانّو مكلف، المواصلات غير مكلفة، ولو أحضروا أفخر أنواع الأكل، وسواء أكان جاهزاً أم حضّروه بأنفسهم، ففي مختلف الأحوال لم يكن الأمر مكلفاً على الإطلاق. هنا الأمر يفرق، ممكن كشباب عزابية يعرفوا يدّبروا حالن، ويعوضوا شي بشي، بس للأسف بالنسبة للعائلات فالأمر صعب جداً، وبالتالي الوضع المادي لعب دوراً كبيراً بتراجع عادة السيران يوم الجمعة عند السوريين. وإذا أردنا الاستفاضة فالوضع لم يؤثر على رحلة يوم الجمعة فقط، في ناس سوريين بعرفهن أنا حق المعرفة مو قادرة توخد ولادها على الملاهي بالأعياد، بعضهم بسبب دوام رب الأسرة بمطعم، والمطاعم أهم شغلن يوم الجمعة وبالأعياد أكثر وأكثر، أو حتى بمهن تانية يمكن يكون دخلا محدود وما رح تقدر تاخد ولادا مثلاً على الملاهي. ثمة نقطة مهمة ينبغي الانتباه لها، أن المقارنة ليست فقط بين سوريي الداخل وسوريي الخارج، فحتى من بقي من السوريين ولم يغادر الشام أو غيرها، لم يعد بمقدوره التمتع بسيران يوم الجمعة.
كنت أتواصل مع صديق بقي في الشام، فإذا به يقول لي “تعال خد كل أيام الأسبوع بس أعطيني يوم الجمعة وطلّعني”. وصديق آخر يعمل موظفاً هناك، يسألني وكان اتصالنا يوم خميس، شو عامل بكرة شو برنامجك.. فأخبرته أن الذين يعملون بالمطاعم برنامجهم يوم الجمعة هو تحضير أنفسهم نفسياً يوم الخميس أن غداً هو يوم عمل وما في لا سيران ولا ما يحزنون، أما أنتم يا موظفين فبكرة فرحكم، فإذا به يجيبني قائلاً: “يعني يوم الجمعة وعطلة وكل شي تمام وما في أي شي؛ لا في بنزين تروح مشوار، ولا في كهربا اضلّك بالبيت وتقعد تتفرج عالتلفزيون، ولا في غاز تقدر تجيب أكل وتتطبخلك طبخة، ومش قادران تاخد ولادك تبسطهم بأبسط الأشياء”. وبالتالي يوم الجمعة ما عاد هناك فرق ليس فقط بين أهل الداخل وبين من غادروا، ولكن بعد عام 2011، لم يعد يوم الجمعة يحمل العبق والخصوصية التي كان يحملها سابقاً. الموضوع اختلف ليس فقط بالمكان ولكن أيضاً بالزمان”.