نداء بوست -أخبار سورية- تحقيقات
مع اقتراب يوم الثامن من آذار/ مارس 1963، اجتمع مجموعة من الضباط في مبنى أركان الجيش السوري، ومن بين هؤلاء كان صديق لي اسمه محمد أمين القدسي، كنا تقدمنا سوياً إلى الكلية الحربية في عام 1951، وقُبل هو حينها ولم أُقبل أنا، وهذا كان بذات العام الذي تقدم به حافظ الأسد إلى الكلية بعد نَيْله الشهادة الثانوية.
وفي الاجتماع المذكور، كان الضابط الطيار أمين القدسي متنبئاً بحدثٍ ما، ووجَّه كلامه لزملائه الضباط قائلاً: “إني أشتم رائحة انقلاب عسكري، سيقوم به الضابط زياد الحريري، وهذا الضابط “تافه” زودوني بضابط آخر لآتي به من أذنه (يقصد الحريري)، ولكن الضباط المجتمعين لم يعيروا انتباههم لهذا الكلام، ولم يهتموا به، وكان القدسي يرى أن هذا الانقلاب مدبر ومدعوم من جهات خارجية.
وثبتت فيما بعدُ تنبؤاتُ القدسي، ووقع انقلاب 8 آذار الذي أُسميه 8 أقذار، بمشاركة ضباط بعثيين وناصريين، وكان يهدف ظاهرياً إلى إعادة الوحدة بين سورية ومصر، وفعلياً كان يهدف لتركيع الشعب السوري، وهو لا يخرج عن كونه جزءاً من الانقلابات العسكرية السابقة.
أول ما جاء به الانقلاب، إحداث هيئة عسكرية للدفاع عما يُسمَّى بـ “ثورة الثامن من آذار” وصدور مرسوم “العزل المدني” الذي شمل مجموعة شخصيات سياسية وأكاديمية تجاوزت 125 شخصاً، تلاه مرسوم آخر، اعتبر كل مَن شملهم المرسوم السابق بحكم المفصولين عن الخدمة، وتضمن عدداً كبيراً من أساتذة الجامعات والقضاة.
وسعى هذا الانقلاب بدوره إلى منع تحوُّل سورية إلى دولة ديمقراطية تدافع عن حقوق الإنسان وتضمن الحريات الفردية.
ولم يطل الأمر لمدة ثلاثة أشهر، حتى حصل صراع بين جناحَيْ الانقلاب البعثي والناصري، والذي تغلب فيه البعثيون وانفردوا بالسلطة. وكنت حينها مرافقاً لوالد زوجتي بالقرب من منزل فخري البارودي الذي أحرقه الانقلابيون بالكامل.
وأنا شخصياً شاهدتُ ميشيل عفلق رئيس الحزب، وكان يسكن بجوارنا في المزرعة وهو يحمل سلاح “كلاشنكوف” في الشارع لمواجهة الجناح الآخر.
وكنت قبل شهر من ذلك، التقيتُ بالمحامي حسن عبد العظيم في محكمة الجنايات، وكنت حينها قاضي صلح، وحذرته من هذا الانقلاب.
بعد ذلك، سُلِّم البلد إلى ثلاثة من الأطباء، نور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس ويوسف زعين، بينما مؤسسو الحزب عفلق والبيطار لم ينالوا شيئاً من السلطة، وقاد هؤلاء الثلاثة الدولة إلى الخراب، ولم تتجاوز أعمارهم الخامسة والثلاثين، وكانوا فيما سبق زملاء لنا في ذات الجامعة، وتم بعد ذلك صرف معظم الضباط الدمشقيين من الخدمة، ففي الوقت الذي وصل به حافظ الأسد للسلطة لم يبقَ في الجيش أي ضابط دمشقي.
الانقلاب جاء لقمع حيوية الشعب السوري وحريته، ورسخ لنظام استبدادي فاشي شمولي، وحزب البعث ركب على الانقلابيين ولم يقم بالانقلاب بنفسه، واستولى على السلطة، ولم يسمح بأي حراك سياسي.
وفي عام 1967 كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وتم تسليم الجولان لإسرائيل تسليما فعلياً، وهذا ما أكده الضابط خليل مصطفى، الذي ألَّف كتابين عن الجولان “سقوط الجولان” و “ملفات الجولان” وبيَّن فيهما كيف تمت الخيانة وتسليم الجولان من قِبل الأسد، والذي لم يُحاكَم ولم يُسأَل كيف ضاعت الجولان؟.
ومن حيث المآل تم التمهيد لاستيلاء حافظ على السلطة في عام 1970، من خلال التنسيق مع ضُباط “هيئة الدفاع عن الثورة” والتي يمثل غالبيتُها ضباطاً من “الطائفة النصيرية”، والذين بلغت نسبتهم في الهيئة ما يقارب 99% من مجموع الضباط، وهؤلاء طيَّفوا الجيش، الذي أصبح يدافع عن مصالح الحاكم، وهذا ما شاهده الجميع في الثورة السورية، حتى أن حافظ الأسد قال: “لقد أنشأنا جيشاً عقائدياً” ويقصد به “جيشاً بعثياً”.