نداء بوست- محمد جميل خضر-عمان
لعلنا نظلم رشيد طليع (1877-1926) القامة الدرزية العروبية الشامخة، إذا تعاملنا معه بوصفه سوريّاً فقط، أو لبنانيّاً فقط، أو أردنيّاً فقط. فالرجل له، في أصله وفصله وأثره، في كل واحدة من بلاد الشام فرع.
قد يكون لبنانيّ المولد صحيح، ابن الجبل الذي لطالما أنجب رجالات من طراز الأمير فخر الدين المعني (قمر مشغرة وبدر وادي الضيم في أغنية فيروزية)، وشكيب وعادل أرسلان وكمال جنبلاط وغيرهم كثر، ولكنه تنقّل في سورية بين دمشق وحماة واللاذقية وحلب، وقدّر له أن يكون لردح من الزمن والياً على حلب، وحاكماً عسكرياً لحماة أيام الملك فيصل والمملكة العربية السورية (بعض المؤرخين يسمّيها المملكة الفيصلية).
وفي قرية "الشبكي" التابعة لمحافظة السويداء أبلى الرجل الصلب صاحب المواقف الكبرى، بلاء مشرفاً في معركة دارت هناك ضد الفرنسيين، وكان من أهم قادة تلك المعركة، ما جعل أهل القرية يصرّون أن يكون قبره في قريتهم عند ترجُّله بعد اشتباك عنيد مع كل أعداء التطلعات الاستقلالية التي سادت الروح العربية أيامها.
صلابة مواقف طليع، وعِناده عندما يتعلق الأمر بمبادئه، لم يقتصر على طريقة تعامُله مع الأعداء، ومع الانتدابيْنِ (الاحتلاليْنِ) الفرنسي لسورية ولبنان، والبريطاني لفلسطين والأردن والعراق، بل امتد ليشمل طريقة تعامُله مع بني جلدته، ولعل أكثر القضايا الإشكالية والخلافات التي ظلت تكبر يوماً إثر يوم بينه وبين الأمير الهاشمي عبد الله بن الحسين (1882-1951)، الذي كان قد وصل عمّان مطالع العام 1921، وشرع بتأسيس إمارة شرق الأردن بدعم من بريطانيا العظمى، لها علاقة بتلك الصلابة العروبية التي أشرنا إليها، وسنفصّلها لاحقاً.
حزب الاستقلال العربي
أول قطوف مشاعر طليع العروبية القومية، عمله مع الوطنيين من رجالات سورية والعراق وفلسطين ولبنان، على تأسيس أول حزب عربيّ، ليكون، بدوره، ثالث رؤساء هذا الحزب بعد ياسين الهاشمي وعلي رضا الركابي. حزب الاستقلال هو الوجه المُعلَن لجمعية "العربية الفتاة" التي أسسها عام 1911، في باريس كلٌّ من: أحمد قدري (سوري دمشقي)، عوني عبد الهادي (فلسطيني نابلسي) ورستم حيدر (لبناني بعلبكي).
وبعد دخول طلائع الجيش العربي إلى دمشق في العام 1918، لم تَعُدْ أسبابُ سريّة الجمعية مُبرَّرةً، فأعلنوا عن أنفسهم بوصفهم هذه المرّة حزباً سياسياً ريادياً عربيَّ الأركان، ولغةَ الضاد، وتطلعاتِ الحريّة والاستقلال.
بعد وصول طليع إلى الأردن (كانت تسمّى شرقيّ الأردن، أو شرقيّ النهر، أو جنوب سورية) على إِثرِ مأساة "ميسلون" عام 1920، واندحار حلم المملكة العربية السورية، حيث تزامن وصوله مع وصول الأمير الهاشميّ من الحجاز إلى "معان"، فوافاه هناك، وكان من بين أوائل عقول توضيب فكرة إنشاء كيان جنوب سورية، يشكّل طليعة الزحف لاستعادة ما خسره الملك فيصل، وما خسرته الأمّة العربية بعد هزيمة "ميسلون" واستشهاد يوسف العظمة. بعد وصوله بدأ مباشرة العمل على إعادة تجميع أعضاء حزب الاستقلال ممن استقر بهم المقام في "عمّان"، أو "السلط"، أو "معان" (لم تكن معان وقتها تتبع الأردن بل مملكة الحجاز).
وبدأ تدبيج خطابٍ جامعٍ ممكنٍ بينه وبين الأمير الهاشمي، حيث بدا واضحاً منذ البداية، بعض تباين بين أهدافهما ومساعيهما وعناوين مشروعيهما في المنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن، وشمال الحجاز، وجنوب سورية، وغرب العراق.
لقاءات "عبد الله-طليع" في "معان" كانت مهمة وجوهرية في التأسيس لمشتركات بينهما. وهي إلى ذلك مهمة بالإبقاء على الجذوة الكبرى التي أخرجت عبد الله الأول من الحجاز باتجاه معتركات الشمال وتزاحم الأضداد، وتشابك المصالح ليس حول الأردن فقط، بل حول غربيّ النهر حيث فلسطين، التي سوف يتبيّن فيما بعد أنها العنوان لكل ما جرى من الفرنساويين والإنكليز المتمسّكين بوعد بلفور، يُخفون تمسكهم به عن حليفهم الذي نجحوا باستدراجه، الشريف الحسين بن علي أقصد، ومن ثَمّ أولاده (ومنهم عبد الله) من بعده.
لا ننكر أن رشيد طليع كان مِن بين القلائل الذين رافقوا الأمير عبد الله في الرحلة الحاسمة التي قابل الأمير خلالها في القدس وزير المستوطنات البريطانية ونستون تشرشل (1874-1965)، ولكنها رفقة المنتبِه، المتحفّز، العاضّ على عروبية كلِّ مقاصدِه كما لو أنه يعضّ على جمرِ الأيام الصعبة. فهم لم يخرجوا على السلطان العثماني ليضعوا كل عنب ولائهم في سلة المستعمر البريطاني، أو الفرنسي، ولكن حتماً ليس المغتصب الصهيونيّ، فهذا آخِر ما كان يمكن أن يقبل به ابن الجبل الأبيّ.
نباهة طليع، وانتباهه، خلال مفاوضات "تشرشل-عبد الله"، التي تُرك جزءٌ منها للرجليْن وحدهما وطُلِب من الباقين الخروج، كما نباهته وانتباهه خلال لقاءاته بالأمير في "معان"، ثم في "عمّان"، جعلت الأمير الذي ما يزال بعضٌ مما أخرجه من الحجاز في وارد وجدانه، وتفكُّرات ليله، يقرّبه، كما لو أنه يريد الاحتفاظ بورقة قومية خالصة، جهادية حقيقية، أبيّة عصيّة على مشاريع الإمبريالية العالمية. أراده ضميره حين يمعن البريطانيون بالضغط عليه.
وأمّا المفارقة الكبرى، فهي أن ما كان سبب إعجاب الأمير بطليع، هو نفسه الذي بدأ ينخر أمواج العلاقة بينهما، ويخرّب كيمياء التفاهم والود.
التمسّك والمغادرة
نشبت الخلافات بين الأمير وبين رشيد طليع أول رؤساء وزرائه بعد تأسيس إمارة شرق الأردن، على القضايا نفسها التي ما انفك طليع وأعضاء حزب الاستقلال واللائذون بقلعة الأزرق من أمثال سلطان باشا الأطرش، يناضلون من أجلها: استقلال القرار العربي. استقلال الدول العربية. تأسيس كيان وحدوي يجمع بين ضفافه خمس أو أربع دول عربية على الأقل. رفض التدخل الإنكليزي بتشكيل حكومات شرق الأردن.
رفض شروط بريطانيا العظمى لتمويل تأسيس جيش وجهاز درك. رفض شروط الأمير للموافقة على تأسيس أحزاب. رفض دخول قوة بريطانية لمنطقة مطار "عمّان" لتأمين حماية الطائرات الأربع التي كانت سلمتها للأردن.
رفض إدارة بريطانيا ظهرها لوعودها بتأسيس كيان عربي في فلسطين شبيه بالذي تأسس في الأردن. رفض مماطلة الأمير الدعوة إلى انتخابات عامة لغايات تشكيل مجلس نيابيّ. رفض الاعتماد الكامل (الكامل بالمعنى الحرفيّ للكلمة) على أموال بريطانيا وجنيهها لتأمين الموازنات السنوية للحكومات الأردنية (ظل الأمر كذلك لسنوات طويلة فأموال الضرائب ما كانت تفي بأي شيء، علماً أن القبائل البدوية شرق الأردن لم تكن تدفع شيئاً من تلك الضرائب).
ورغم عزمه على الاستقالة بعد احتدام الخلافات بينه وبين أمير البلاد الأردنية، إلا أن طليع رفض وعزّت عليه نفسه عندما أبلغه الأمير أن حكومة الانتداب غير راضية عنه، وتصفه بالشخص المعادي للفرنساويين في دمشق، وهي تود تجنُّب أي مواجهة في الظروف الراهنة بينها وبين فرنسا. قال بالحرف الواحد للأمير: "أنت تعلم أنني كنت -ولم أزل- مستعداً لترك الحكومة حين أرى المصلحة تقضي بذلك. أمّا الآن فالمصلحة لا تجيز لي أن أتنحّى لأسباب ليست في الحقيقة غير رغبة المعتَمد البريطانيّ".
فردّ عليه الأمير: "وتشرشل أيضاً".
فأنهى طليع الحوار قائلاً: "إنْ كنتَ أنت ترى ابتعادي عن الحكومة لأسباب أخرى، فذلك أفضل للمصلحة، ولك أن تعدّني مستقيلاً منذ هذه الساعة".
مدماكٌ جوهريّ
شكّل رشيد طليع مدماكاً رئيسياً من مداميك بناء الدولة الأردنية الحديثة. طوّر الجيش والإدارة. حاول مواجهة فساد بعض وزرائه ممن كانوا يسرقون الجنيهات الإسترلينية التي كانت ترسلها بريطانيا موازنة للدولة الناشئة (بدأت الموازنة بـ 120 ألف جنيه إسترليني، ثم جرى رفعها عام 1927 إلى 200 ألف جنيه، والسرقة كانت تطال نصفها تقريباً، حيث يبدو أن وزراء الدولة أدركوا أكثر مما كان من طليع، أنه لا جدوى لدولة تنشأ بدعم، بل بتدبيرٍ، من أصحاب وعد بلفور، فرأوا في تلك الدولة جُمعة مشمشية عليهم أن يأكلوا كل ما تطاله أيديهم من ثمار حقلها المفتوح للأعداء والنسيان).
ظل وفيّاً لعناوين خروجه على السلطان، ليس عداء للدولة العليّة، بل رغبة بتحقيق حلم عروبي راوده وهو يدرس في "الأستانة". ظل متمسكاً بمشروع نهضة عربية حقيقية. قاد أول حكومتيْنِ أردنيتيْنِ هاشميتيْنِ، بين الأولى والثانية منهما أشهر قليلة، إذ يبدو أن سرعة تبديل الحكومات في المملكة الأردنية الهاشمية، بدأت مع بداية الدولة، التي بلغت العام الماضي مئويتها الأولى.
التنسّك والترجّل
قضى طليع أُخريات أيامه معتكفاً زاهداً موحّداً، كيف لا وعشيرته من آل طليع وريثة مشيخة العقل عند الموحِّدين من أبناء الطائفة الدرزية. إلى أنْ طوى في أيلول/ سبتمبر من عام 1926، صفحة الحياة والسياسة والنضال والآمال عن 49 عاماً أي ما يعادل ريعان الشباب في أيامنا هذه. ولا يزال نصبه التذكاريّ في "الشبكي" ناحية السويداء، يعيد الحكاية من البداية إلى البداية.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية