قيل تاريخياً في التناقضات والخلافات والعداوات والحروب بين الشعوب:” what is good food for a German is poison for a Russian”. /ما هو أمل طيّب لألماني، سُمٌّ زُعاف لروسي”؛ وهذا مَثَل ينطبق على شعوب في دول مختلفة بينها دماء، وما لم يصنع الحداد، أو مخترع لأكثر الأسلحة فتكاً. نحن -كسوريين- ليس بيننا أيّ من هذا؛ بل بيننا أواصر قُربى والتصاق أكثر من سكان دول كثيرة؛ وأهمّ ما بيننا اشتراكنا جميعاً بما حلّ بنا وببلدنا.
وما تبقَّى لنا من سورية الطبيعية، التي نعرف ونحب، إلاّ المئةُ والخمسةُ والثمانون ألف كيلومتر مربع؛ فما من سوري يحترم نفسه؛ ويرضى أن تتواجد قَدَم غريبة على أرض هذه الغالية.
المفارقة الغريبة العجيبة، أنه عندما يعلن القاتل بوتين سحب بعض قواته من هذه الأرض، تقوم دنيا جزء من السوريين، ولا تقعد؛ وتصف بوتين بأقذع الأوصاف، ولكنها تبدأ بالتهليل لميليشيات إيران وحرسها الثوري بسدِّ الفراغ. ومن جانب آخر، يهلل جزءٌ آخر من السوريين لذلك الذي لم يكن إلا مناورة، جرت من خلالها تغيرات في أصناف أسلحة بوتين أو قَتَلَتِه، الذين يحتاجهم في أوكرانيا الآن.
تظهر دعوات وتصريحات وتهديدات بإخراج إيران وميليشياتها من سورية، فيهلل لها كثيرون؛ ولكن من جانب آخر يفتَح بعض السوريين أبواب جهنم، ويهاجمون كل مَن يطلق دعوةً كهذه، أو يفكر بإخراج القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في “المقاومة والممانعة” من سورية. وعندما تخرج تصريحات أمريكية بسحب القوات الأمريكية من الشمال السوري؛ يستنفر البعض، ويصفون خطوة أمريكا بالتخلّي عنهم والغدر بهم؛ ومن جانبه يرى “محور المقاومة” في ذلك انتصاراً له.
وعندما تفكر تركيا بمنطقة آمنة داخل سورية لاحتواء ملايين السوريين النازحين، وحماية أمنها الوطني من إرهاب الـ PKK؛ تثور ثائرة البعض على “الاستعمار العثماني”، ويتم وصف سوريين آخرين بالمتآمرين مع الاحتلال التركي.
أيُّ شعب هذا وأيُّ نفوس و”عقول” هذه التي تتراشق على الذبيحة الأقدس؟! أيُّ وطن هذا الذي يتمسك بعض أهله بهذا الاحتلال أو ذاك، وبذلك التصريح، أو الموقف، أو ذاك؛ معتقدين أن ذاك الموقف وتلك القوة هي التي تبقيهم في السلطة، وتهزم إخوتهم السوريين، أو تقتلعهم وتبعثرهم في أربعة أصقاع الأرض؛ ومعتبرين أن النوع الآخر من الاحتلال، أو القوة، أو المواقف، أو التصاريح، جزء من المؤامرة والاستباحة لسيادة الوطن؟! أي وطن هذا الذي تجد فيه نسخة معاكسة تماماً للأولى؟!.
لا يقتصر هذا الشرخ الدامي على المواقف من الاحتلالات، بل يتجاوزه إلى مسائل غاية في الحساسية تجعل من مجموعة بشرية أبناء وطن واحد أو أعداء؛ فالبعض يرى بمَن قضى من ضفة النظام شهيداً، ومَن قضى- حتى ولو في معتقلات النظام- إرهابياً، وَجَبَ قتله. وعكس ذلك صحيح لآخرين يرون أن الجيش، الذي كانت مهمته الدفاع عن الوطن، يدافع عن منظومة الاستبداد فقط. والأمر ذاته ينطبق على المعتقلين، ومن تشرّد، ومن بقي على ضفة النظام، وعلى المساعدات، وقضايا لا تُحصى. وإحدى المشكلات المؤلمة في كل ذلك أن عدد مَن هم خارج حالة الاستقطاب الثنائية هذه أضحى قليلاً.
الأغرب هو الاحتكام إلى ما يسميه “النظام” وموالوه وداعموه “الشرعية”؛ فالوجودان الإيراني والروسي والميليشيات التابعة لهما “شرعية”؛ وتأتي هذه الشرعية من دعوة نظام الأسد أولئك، أو موافقته على وجودهم.
وإذا ما تم البحث في وجود تلك القوات، يتكشف أن النظام دعاهم لا لحماية الوطن والمواطن، بل لحماية النظام من المواطن، مقابل استباحة الوطن والسيطرة على موارده.
الوجود الآخر بالنسبة للنظام “غير شرعي”، لا لشيء، بل فقط لأنه لم ينسّق مع النظام، أو لم يأخذ موافقته؛ فقد قالها وزير خارجيته يوماً: “مَن يريد أن يتدخل بسورية، لا بُدَّ أن ينسق معنا”.
هناك بُعدٌ ثالث لهذا التقييم؛ فإضافة إلى هذا الانسجام والتوافق بين تقييم النظام وإيران وروسيا أنفسهم والآخر على الأرض السورية، هناك مَن لا يرى في هذا الثلاثي والجوقة وراءهم إلا منظومات إجرام وقهر وظلم واستبداد مولِّدة للإرهاب، وكل أنواع الفبركات والذرائع للبقاء على كرسي الدم في سورية.
تُشكِّل القطبية البشعة أعلاه الوصفة الأنجع للخراب الدائم. لقد بدأ ذلك بشعارات النظام المدمرة: “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد”؛ وهو ما قاد إلى هذه القطبية العدمية.
إحدى المشكلات المؤلمة في سورية تتمثل في أن عدد مَن هم خارج حالة الاستقطاب الثنائية هذه أضحى قليلاً.
مع ذلك، يستحيل أن تُلغي جهةٌ الجهةَ الأخرى، ولو استمر ذلك لأجيال.
والقرارات الدولية الخاصة بإيجاد حلّ في سورية بُنيت على هذا الأساس؛ ونصّ الحل “بتصرف”: “إيجاد جسم سياسي انتقالي، كامل الصلاحيات، يُهيِّئ لانتخابات وكتابة دستور ويعيد البلاد إلى سكّة الحياة”. سارت الأمور حتى الآنَ كما يشتهي الفريق الرافض لهذه المعادلة.
ولم يأتِ الحل لسورية ولن يأتي، ولن يهنأ النظام والروس والإيرانيون بسير الأمور كما يشتهون؛ فهناك فريق الضفة المعاكسة، وهناك فريق داعم، وهناك الأمم المتحدة وقراراتها، وهناك ملفات الإجرام التي لا تنتهِي؛ وهناك الحقّ والمنطق. لا يمكن لحل أن يُبنى على مبدأ “الكل أو لا شيء” أو “الأسد أو لا أحد” أو “الأسد أو نحرق البلد”؛ فالبلد احترق؛ ولا يستطيع الأسد أن يبقى.
هناك حقائق لا بُدّ من الانطلاق منها في فَهْم ومعالجة ما وصلنا إليه؛ فلا الروسي أو الإيراني أو التركي أو الأمريكي يمكن أن يهتم بمصلحة سورية وأهلها إلا بقدر ما تخدم سياساته؛ ولن يُنقذ السوريَّ تعلُّقُه بالقاتل، أكان داخلياً، أم خارجياً غازياً. والسوري الذي خسر فلذات أكباده لا يريد أن يخسر المزيد؛ ومَن قَتل لن يتوانى عن مزيد من القتل.
السوريون بإمكانهم تحمُّل عداوة الخارج، ويحصلون منه على حقهم، ويثأرون لأنفسهم؛ ولكنهم لا يحتملون عداوة الداخل؛ ذلك يجعل العيش أو التعايش مستحيلاً.
يمكنك التعايش مع القمع؛ لكن يستحيل العيش مع نظام الإبادة. الفاعل بما فعل، وهو الداء: – مَن ارتكب مجازر – مَن أعطى أوامر – مَن قصف – مَن دمر – مَن اعتقل، لا بُدّ من محاسبته؛ وهؤلاء يشكلون نسبة لا تكاد تُذكَر من أربعة وعشرين مليون إنسان.