أصعب الحروب وأعقدها هي تلك التي تتعدد جبهاتها وتتداخل مصالح أطرافها تناقضاً وانسجاماً. حروب كهذه تستحق نَيْل لقب "حرب عالمية"؛ إلا أن زمن تلك التسميات ولّى. تتعدد الجبهات التي تخوض عليها أمريكا حروبها الحالية؛ ولكن يمكن حصرها بثلاث: مع روسيا ومع الصين ومع إيران. رغم القمة "الروسية-الصينية" الأخيرة، والحديث عن المليارات، إلا أن أول نجاح لأمريكا في حربها الثلاثية هذه، أنها حالت دون تحالف إستراتيجي للثلاثة؛ ولكنها لشيخوخة رؤيتها جعلت من الحسم مستحيلاً، عندما تخوضها في وقت واحد.
وإذا ما وصلت أمريكا لقناعة بأن مفتاح الحسم في مكان واحد، سيسرع ذلك استعادتها للتربُّع ثانية على هرم النظام العالمي الذي أوجدته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وعليها ألا تتفاجأ بأن المفتاح في سورية. ومن هنا، سيتم تسليط الضوء على تلك الحروب في سياق الصراع في سورية وعليها. في السطور التالية سيكون التركيز على الأخف بين هذه الحروب، تحديداً مع إيران، وكيف يمكن أن يكون لها مفاعيل وعقابيل تجاه الخصمين الآخريْنِ.
بداية، أمريكا ليست بغافلة عن طموحات ملالي طهران، ولا نسيت إداراتُها المتعاقبة عقوداً من حرب لم تتوقف؛ حتى ولو كانت مقتصرة على شعارات "أمريكا الشيطان الأكبر" و"الموت لأمريكا" وحتى ولو لم تشهد هذه الحرب صواريخَ أو طائرات. وما أمريكا غافلة عن طموحات إيران التاريخية والحاضرة بإضعاف محيطها العربي؛ وما قدّمت لها عراق صدام حسين مثلاً لتستبيحه دون أن يكون "الكومسيون" إلا أضعاف قيمة الغنيمة؛ ولا هي كانت لتسمح لحزب الله- أداة إيران- بأن يعبث بسورية ؛ ولا كانت لتسمح لإيران بدخولها العسكري إلى سورية وحتى إلى القرب من الحدود مع ربيبتها إسرائيل؛ لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها. الأمر ذاته يمكن أن يُسحَب على اليمن، بعد أن كان لبنان أفظع الاستباحات الإيرانية منذ زمن. هل أمريكا مغفّلة إلى هذه الدرجة لتترك لإيران الحبل على الغارب لتهدد أعز ما لديها من مصالح، هي الأهم في العالم؛ دول الخليج العربي والمتوسط؟! كيف يستقيم الأمر مع أمريكا لتترك إيران تتجاوز حتى تمددات إسرائيل ربيبتها؟! وهل مرعب مشروع إيران النووي إلى هذه الدرجة كي تبادله أمريكا بإطلاق يد إيران، وتتحوّل إلى إمبراطورية، في عصر أصبح مجرى تنفس أي دولة مهما كبرت (بما في ذلك روسيا) بيد أمريكا؟!!.
ما السر يا ترى؟ هل هناك فتح لسياسات التمدد الجغرافي الاستعماري الذي يمهد الطريق أمام إسرائيل بتمدد جديد أسوة بمن يتمدد؟ هل الأمر لإظهار كم كانت إسرائيل ”رحومة” بتمددها وممارساتها في الأرض العربية مقارنة مع الإمبراطورية الفارسية الجديدة؟ هل لم يعد صالحا أو مناسباً ذاك الشرطي الإسرائيلي لخدمة مصالح أمريكا في المنطقة، ولا بد من تبديل الحرس الذي قد يكون مقبولاً أكثر من الإسرائيلي على خطوط وأسس دينية وثقافية مشتركة؟!.
كل ما ذكر ممكن؛ ولكن يبقى ذا صفة وطبيعة تكتيكية لا أكثر؛ أما الأمر ذو الطبيعة الإستراتيجية فهو دفع أهل إمبراطورية فارس الفاشلة تاريخياً إلى مغامرات مغرية قابلة للتصديق.
إنها “إستراتيجية ترقيق الجبهات واستنزاف القوة” إنها حالة الضفدع المحاصر، الذي وجد نفسه في بركة ماء راكدة بإشنياتها؛ وتصور نفسه قادراً بمكابرة على ابتلاع البركة بكاملها. يبدو أن أمريكا بانتظار التمدد هذا كي تقتلع ذلك المشروع الذي تعتقد إيران أنها ستستكمله بامتلاكها السلاح الذري.
بصفقته النووية مع إيران، جعل الرئيس الأمريكي الأسبق "أوباما" سورية فرق حساب؛ رغم أن فرصته كانت مواتية لقطع أذرع إيران ابتداءً من سورية. إلا أن تلك الحسابات تمخضت عن مفاعيل عكسية، فقوّت عضوية إيران ضِمن المثلث المذكور من جانب، ونشطته من جانب آخر.
وبذا كانت النقاط المشتركة بين الثلاثي في سورية مصدر قوة لهم، وزاوية قلق وضعف لأمريكا. ولو فعلت أمريكا العكس، وتحديداً باستفرادها بإيران في سورية، لانعكس ذلك أيضاً على شريكيها روسيا والصين؛ إلا أن اكتفاءها باستهدافات إسرائيل لبعض مواقع إيران على الأرض السورية، لم يكن كافياً أو ذا قيمة إستراتيجية.
محاولات بوتين ابتلاع أوكرانيا، وقبلها وضع اليد على القرم، ثم دخول القوات الروسية كازاخستان؛ وفوق كل هذا سيطرة بوتين بالتحالف مع إيران على سورية، وبمباركة صينية؛ كل ذلك عزّز أضلاع المثلث في وجه أمريكا، ووضع أوروبا في حالة شلل بحكم اعتماديتها على روسيا كمصدر للطاقة وخاصة الغاز. هذا دفع رأس الإدارة الأمريكية "بايدن" لدعوة أمير قطر لكسر الابتزاز الروسي لأوروبا والتعويض عن غازها بالغاز القطري، الذي لا بد يمر عبر سورية.
وطالما روسيا وإيران شركة وحلفاء على الأرض السورية، فهذا المشروع لن يرى النور. وهذا يعيد سياسة أمريكا إلى المربع الأول. فإن هي أخذت أضلاع المثلث واحداً بعد الآخر، لا في وقت واحد كما تفعل، لحققت هدفها.
ومرة أخرى الضلع الأنسب للبدء بتحييده هو إيران، والبداية باقتلاعها من سورية، لن تهزم الملالي ولن تضع مشروعهم بحجمه إلا إذا هزمت إيران في سورية؛ والتحالف الثلاثي القائم ليس عضوياً، ولا إستراتيجيا، وضرب أحد أضلاع هذا المثلث كفيل بجعل الذراعين الآخريْنِ يدوران في الفراغ؛ وتحديداً في سورية.