“مرقعي العبي” الصفة والاسم المحبب لسلطان الأطرش ورفاقه في الثورة السورية الكبرى، وقد أحبوا أن يرافقهم الاسم لحين وفاتهم! والاسم في ذاته كناية عن حياتهم البسيطة وزهدهم ببهارج الدنيا وبذخها، حياة الفلاح المشبع بالوطنية والارتباط المتين بالأرض.
هي صفة لثيابهم الرثة وقد تزينت بالرقع، و”الرقعة” قطعة من القماش يُحاك بها الثوب عندما يُمزع من مكان فيه بدل استبداله بجديد! وقد أبت أنفسهم أن يختاروا استبدال وطنيتهم وسوريتهم بأي اسم محلي ذي شأن طائفي “كحركة الموحدين الدروز” أو “قوات الدروز المحلية” من قبيل ما يطرح اليوم على الساحة السورية من أسماء وألقاب رنانة!
لم يكن قرارًا أن يختار سلطان الأرض ورجال الثورة وطنيتهم السورية، بقدر ما كانت الوطنية تتملكهم بعفويتهم الحرة بعمقها الوطني العربي المتمثل بوجدان نقي وشعور عميق بفطرة الانتماء والاستقرار والتمسك بالأرض في كامل الأرض السورية، تلك التي أُشهرت في بيان الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي بتاريخ 23 آب/ أغسطس 1925 “يا أحفاد العرب الأمجاد، هذا يوم ينفع المجاهدين من جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم. هذا يوم انتباه الأمم والشعوب. فلننهض من رقادنا ولنبدد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا”.
وهو فعلًا يوم انتباه اليوم وكل يوم! فاليوم هي الذكرى الأربعون لوفاة المرحوم سلطان الأطرش الموافقة في 26 آذار/ مارس عام 1982 عن عمر ناهز التسعين عاماً (1891-1982).
ولازال هذا اليوم، رغم كل محاولات سلطة البعث طمسه وتحويل ذكراه ليوم الاستقلال، لا زال منارة وطنية سورية يعاد الاحتفال بها، بعد أن تم قطعها زمنياً وحرمان الشباب السوري من الاحتفال به وملاحقتهم بالتقارير الأمنية والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يحاول أن يحيي ذكرى وفاته في يومها! حتى لا يمثل سلطان وأقرانه رمزًا وطنيًا منفردًا يقارن بغيره من سياسي الانتهاز وادعاء الوطنية والوحدة والتحرير والاشتراكية، فيما سلوكهم وحياتهم البذخ والنفاق والسلب والاستيلاء على مقدرات الوطن برمته، لا بل بيعه وتأجيره لكل من يدفع ثمناً أكبر، وتهجير معظم داخله!
لم يكتفِ سلطان الأطرش ببساطته كفلاح وعمق وطنيته بالفطرة الشعورية التي تعبر عن صدقها بكل ممارساته، بل انتقل زمنياً الى الضرورات المرحلية والزمنية في وقته. وضرورة الضرورات تحرير سورية من محتلها الفرنسي. تلك اللحظة التي تأخرت مفاعيل حدوثها الى أن نضج الوعي السوري عامة بضرورة الالتفاف حول نموذج تعاقدي في طريقة التحرير! تلك اللحظة التي وإن تأخرت بحكم التوازنات المحلية، لكنها سرعان ما تنامت وتحولت لفعل تحرري بالواقع وتأسيس فكري نظري مقترن بها عنوانها وشعارها “الدين لله والوطن للجميع”، شعار الثورة السورية الكبرى.
الانتقال من الوطنية الفطرية الشعورية إلى ممارسة الوطنية بالخيار الحر والإرادي، والذي نعرفها اليوم بالمواطنة، هي تلك اللحظة التي التقت فيها الإرادات الحرة لمكونات الشعب السوري لصياغة تعاقدهم الوطني في الحرية والكرامة بما تحمل من مضامين وجودية واجتماعية وسياسية، تتجاوز الاختلاف الديني وطرقه الإيمانية، وتتجاوز الخلاف على أحقية القيادة والزعامة التقليدية، وتنفي الغلبة السياسية لجهة خلاف غيرها، وتذهب تجاه نواة البناء العام للمواطنة.
تلك كانت شعلتها لحظة التنسيق والإجماع العام بين الكتلة الدمشقية الوطنية ممثلة بحزب الشعب ورئيسه عبد الرحمن الشهبدر، ومن معه من حمص وحماة وباقي المناطق السورية مع مرقعي العبي في جبل العرب ليضعوا وثيقة عهد وطنية تعم بشمولها عموم سورية في موضوعَي الهُوِيَّة الوطنية، والاستقلال والتحرر، ما جسدته بوضوح مقولة “الدين لله والوطن للجميع” بشكل متلازم بين القول والممارسة، فكانت ثورة 1925. وفي الجانب الآخر، شكل الوعي الوطني والحقوقي العام مفارقة معنوية كبيرة ساهمت في بناء المنظومة المعرفية الأولى لمرحلة التحرر الوطني والتأسيس لنواة الدولة السورية، مع التفريق بين الدعوة لمحاربة المستعمر الفرنسي كقوة احتلال وإكراه، عن مبادئ الثورة الفرنسية الثقافية والحقوقية في الحرية وسواد القانون والعدل، والتي حملت بذور الوعي الوطني العام، ورؤية متقدمة في المدنية والعلمانية وربطها بالهوية الوطنية وتجسيد أولى بناها في المواطنة.
اليوم، وفي ذكرى سلطان الأربعين، تجتاح السوريين كل صنوف المغالطات والاختلاط، وتنتابهم كل أشكال المشاريع المشبوهة: من سلطة الإكراه وسلطات الأمر الواقع، إلى النزعات المختلة في الاحتماء بالمستعمر لتبرير بقاء سلطة بعينها، إلى مواصلة البحث عن شبه دويلة كردية أو درزية وربما ساحلية، وأخرى سنية… إلى تنازع دولي في طرق حل المسألة السورية غير السورية..
فيما تبقى السلطة القائمة، الوريث غير الشرعي وغير الدستوري لما بناه الآباء الأوائل للوطنية السورية ومنهم سلطان والشهبندر والأتاسي والخوري…، مستفيدة مع عمق هذه الخلافات البينية لتبقي على مكتسباتها السلطوية والمالية والسياسية. ولم تتحرك بعد مفاعيل النزعة الوطنية مرة أخرى بين مكونات هذا الشعب للبحث، كما فعل الآباء المؤسسون، عن تعاقد وطني محدث بحكم العصر والربيع العربي الذي كاد أن يصبح قتيلاً.
فإن كانت المواطنة هي ممارسة الحقوق العامة والوطنية جذرها الطبيعي الأول، فمن غير الممكن تأطيرها والاكتفاء بالوطنية شعورياً على أنه مشروع دولة إلا بالحرية والقواعد الدستورية لصيانتها، وهذا لن يتحقق إلا بالتحول الديمقراطي والتغيير السياسي المنشود، وهو ما يعاد طرحه بالسويداء اليوم، بعد أن تم طمسه في السنوات السابقة أمام كثرة وازدحام المشاريع المتنافسة على السلطة في مذبحة كبرى عنوانها الأعم: سورية من الثورة للنزاع على السلطة، وشتان بين هذه وتلك. فهل يمكن أن تعاد الكرة اليوم ويعود التقاء السوريين على عقد وطني قابل للتفعيل والتحقق؟
كان يمكن لسلطان ورفاقه أن يكتفوا بالإغراءات الفرنسية بدويلة على مقاس الدروز وجبل العرب، ومثلهم وطنيو سورية في مناطقهما، لكن بصيرتهم ووعيهم الفطري قادهم لمغايرة الاستسهال والذهاب لأعلى درجات الوعي بضرورة التعاقد على هوية الوطن وطريقة المواطنة، دون نزاع ديني أو سياسي بل باتجاه التحرير ومن بعده البناء، ما جعل ذكراه لليوم منارة لا يمكن تجاوزها مهما حاولت السلطة لفت الأنظار عنها بعيداً لتكريس هيمنتها واستحواذها المفرد والمطلق بكل خيرات الوطن..
لم تزل فطرة الناس ومكنونها الوطني الخير وجذوة تحركها للحرية والكرامة والعدالة، عوامل مهمة ورئيسية من روافع الوطنية السورية، ويتطلب الارتقاء بها بالإرادة الحرة لمصاف المواطنة، والانتقال من مشروع الوطنية إلى مشروع الدولة، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة، وهذا مرهون بقدرة الأبناء على قراءة وثائق الآباء المؤسسين بالعمق دون الاكتفاء منها بالسطح العفوي والفطري، على أهميته، لكن بالبحث عن طريقة التعاقد الوطني اليوم، كما فعلها الآباء، ومعاكسة سير الانحدار السوري العام…..
Author
-
كاتب وباحث سوري، حاز درجة دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له عدد من الأبحاث العلمية المنشورة، وعدد من المقالات