يتصاعد الغضب الشعبي في إيران تنديداً بمقتل الشابة مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق”، وتتصاعد معه مطالب المحتجين ضد النظام السياسي للجمهورية “الإسلامية” برمته، مطالبين بإسقاط “ولاية الفقهاء” المتحكمة بالدولة والمجتمع الإيرانيين.
قبل غروب الألفية الثانية حتى اليوم، شهدت إيران انتفاضات شعبية تشابهت بفئوية مطالبها وقصورها على جوانب دون أخرى، باستثناء الانتفاضة الحالية، التي جمعت عصارة المطالب الشعبية السابقة وأضافت عليها أبعاد جندرية واثنية واجتماعية حقوقية تؤهلها للارتقاء إلى مستوى الثورة.
ورغم القمع الوحشي المتوقع لمجابهتها، والذي بدت ملامحه من توصيف المسؤولين الإيرانيين للانتفاضة باعتبارها مؤامرة مرتبطة بدول خارجية تسعى للنيل من “الاقتدار” الإيراني، إلا أن القمع الوحشي المتوقع لن يؤتي ثماره هذه المرة، فالواقع الإيراني ينطوي على أزمة مركبة، فهناك مجتمع أو شعوب مناضلة لإقرار حقوقها، إلى جانب نظام سياسي وصل إلى طريقٍ مسدود.
سابقاً لعبت مسرحية تياري الإصلاح والمحافظين دوراً بارزاً في تهدئة الشارع الإيراني لسنوات عدة، غير أن أحداث الحركة الخضراء أنهت هذه المسرحية. وكشفت عملية استخدام النظام لتيار “الإصلاح” في تمرير الهزات الداخلية والخارجية، وكشفت معها وحدة المشارب السياسية والأيدولوجية لدى التيارين، بعد اعتزال مير حسين موسوي، أحد قادة الاحتجاجات، ساحات الاحتجاج نتيجة مطالبتها بإسقاط النظام.
واليوم، يسعى الإصلاحيون لركوب موجة الاحتجاجات بغية العودة إلى السلطة التي أقصو عنها. ويمكن قراءة ذلك، من خلال تحميل الصحف المحسوبة على “تيار الإصلاح” للحكومة الحالية المتشددة نتائج ما آلت إليه الأمور داخلياً وخارجياً؛ ما سيؤدي لتأجيج لهيب الشارع دون سيطرة للإصلاحيين عليه. وهو ما يجعل الساحة الإيرانية مفتوحة أمام خيارات متعددة ومجهولة.
وبالعودة للحركة الخضراء ودور قادتها في وأد الحراك، وبعد الإشارة إلى الأساليب الوحشية التي مارسها النظام الإيراني لإخماد الحركة، لابد من الإشارة إلى الإحجام الدولي، والأمريكي تحديداً، عن دعم الحركة الاحتجاجية، بناءً على حسابات سياسية خطّئها الواقع. إذ عول الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، على تغيير سلوك إيران نتيجة إدماجها بالمجتمع الدولي، كمحصلة للاتفاق المأمول معها. أثبتت السنوات اللاحقة للاتفاق عكس ما عوّلت عليه إدارة أوباما، حيث اعتبرت طهران الاتفاق موافقة ضمنية على مشروعها التوسعي. وعليه، يرجح ألا تقع إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في حفرة تخاذل أوباما عن دعم الحركة الاحتجاجية عام 2009، لاسيما مع تعميق الاصطفاف الإيراني إلى جانب الصين وروسيا بصورة قد تؤدي إلى شراكة/تحالف بين ثلاثية الرفض للنظام الدولي والزعامة الأمريكية لهذا النظام.
لعب البازار لعقود طويلة دوراً محورياً في تأجيج أو تهدئة الشارع الإيراني، بما يمثله من مكانة اقتصادية وسياسية أيضاً، تمّكنه من التأثير في أي حراك شعبي، من خلال مده أو حرمانه ب/من مستلزمات ديموته، بالإضافة لامتلاكه قرار شل حركة الاقتصاد الإيراني كلياً أو جزئياً. ولإيضاح دور البازار لابد من المرور على محطات مصيرية في التاريخ الإيراني، فالثورة الدستورية 1905_1906انفجرت نيرانها بعد جلد أحد تجار البازار، ولولا اصطفاف البازار خلف فتوى الميرزا محمد حسن الشيرازي لما عرفنا ثورة التنباك (1890). وأما ثورة عام 1978-1979، فما حولها من احتجاجات غاضبة على مقالة “إيران والاستعمار الأحمر والأسود” المسيئة للخميني، هو انضمام البازار للحراك الشعبي من خلال الإضراب.
واليوم يقبع البازار على رصيف الاقتصاد الإيراني، بعد ابتلاع المؤسسات المشكلة من قبل الحرس الثوري الإيراني لجل الاقتصادي الإيراني، منشئة شبكة من الدخلاء المنتفعين لم تترك للبرجوازية الإيرانية العريقة إلا الفتات، مما يؤهل البازار للانضمام للحراك الشعبي في مرحلة معينة، ورفده بمستلزمات الثورة ونجاحها.
حسمت ثورة 1979 شكل الجمهورية الإيرانية المراد تأسيسها على أنقاض الملكية الشاهنشاهية في مرحلة مبكرة من عمر الثورة، وفي ذروة سيطرة التيار الراديكالي على الشارع الإيراني.
إذ تم التصويت لصالح الجمهورية الإسلامية بعد شهرين من انتصار الثورة. كما تم إقرار الدستور الإيراني بما تضمنه من مواد خاصة بمبدأ “ولاية الفقيه”(الولاية العامة) بالتزامن مع أحداث السفارة الأمريكية. لذا لم تسمع حينها أصوات الرافضين لمبدأ “ولاية الفقيه” إجمالاً، مطالبين بإبقائه محصوراً بالإمام الغائب، أو الرافضين لمبدأ “الولاية الحصرية لفقيه” مطالبين بمبدأ “ولاية الفقهاء – ولاية”. وقد جمعت الاحتجاجات المندلعة عِقب عزل “آية الله” علي حسين منتظري، عن خلافة الخميني، الرافضين المذكورين أعلاه، بالإضافة لمقلدي منتظرين المنتصرين لشخصه.
ورغم حسم المسألة لصالح السلطة التي لم تكن قد تآكلت شرعيتها في ذلك الحين، مستفيدةً من الزخم الثوري المصاحب لانتهاء الحرب العراقية الإيرانية، والمصحوب برغبة التمايز عن مرجعية النجف العراقية المعارضة لمبدأ الولاية، غير أن الآراء الفقهية المعارضة لمبدأ “الولاية العامة” بقيت حبيسة صدور أصحابها، وهم كثر، تنتظر الفرصة المناسبة لإعلانها، ولعل الحديث عن خلافة المرشد الحالي، علي خامنئي، منصة لعودة الأصوات المعارضة لمبدأ “ولاية الفقيه”، العمود الفقري الذي يرتكز عليه النظام السياسي الإيراني.
في الآونة الأخيرة، كثرت الأحاديث عن صحة المرشد المعتلة وعن خلافته، وهو استحقاق سياسي تأخر زمانه، لعوامل لا مجال لذكرها الآن، ما يهمنا منها تداعياتها على تماسك النظام، في ظل عدم وجود مرشح تتوفر فيه الشروط المطلوبة للموقع، وتتلاقى عليه أجنحة السلطة والتيارات السياسية والدينية المؤثرة. وبالعودة لعملية خلافة خامنئي للخميني في الموقع، نلحظ الصعوبة الكبيرة في عملية الإخلاف، رغم وجود الخميني بكاريزميته مع أشخاص أقوياء، أمثال “صانع الملوك”، أكبر هاشمي رفسنجاني، ومع ذلك سقطت رؤوس وأقصيت تيارات سياسية ودينية عن المشهد الإيراني. ناهيك عن تعديل الدستور الإيراني لتضييق الشروط المطلوبة بما يناسب خامنئي، ونشر أسرار الدولة خلال معركة خلافة الخميني، ومنها قضية “إيران كونترا”، والتي سربها لمجلة الشراع اللبنانية صهر الخليفة المعزول منتظري.
وما أود قوله: إن تعيين/انتخاب خليفة للمرشد السابق لم تكن بالأمر السهل في زمن مؤسسي “الجمهورية الإسلامية” الأوائل، ولترقيع الشروخ التي أحدثتها، قام المرشد الحالي بالعديد من الإجراءات الاستبدادية، منها توسيع صلاحيات الحرس الثوري الإيراني إلى الحدود التي نراها اليوم. وفي ظل غياب شخصية مطروحة تحظى بقبول التيارات الداخلية المختلفة وأجنحة السلطة المتمايزة، والصعوبة الكبيرة لحدوث عملية الإخلاف؛ بدلالة ترك الموضوع رغم قِدم استحقاقه والضرورة الحالية الملحة، مما يدعو لترجيح انفجار ذاتي للسلطة، وفي أقل تقدير هزة داخلية عنيفة تقود إلى تقدم تكتل من الحرس الثوري لقيادة الدولة من المقعد الأمامي، بعد سنوات القيادة من المقعد الخلفي؛ ما يقود لصراعات داخلية مفتوحة على كل الجبهات الداخلية. وفي ظل غليان مجتمعي وقطيعة الأخير مع نظامه السياسي، والقنبلة الموقوتة المراد تأخير زمانها، تبدو الساحة الإيرانية مفتوحة على جميع الاحتمالات العنفية للتغيير.
ما بين شعوب مناضلة لإقرار حقوق المواطنة، وميليشيا عسكرية مؤدلجة تسحق كل توجه يحد من سلطاتها، ومؤسسة دينية جردت من مزاياها لحساب خط ضعيف ضمنها، مع تيارات سياسية ومؤسسة عسكرية أقصو عن السلطة بعد تأميم المؤسسات الإيرانية لصالح تيار المتشددين الثوريين، ترقد إيران على برميل من البارود.