”نداء بوست“ ـ متابعات ـ فارس الذهبي – باريس:
في قاعة سينما مركز جورج بومبيدو، افتتح يوم العاشر من تشرين الأول العرض الباريسي الأول لفيلم المخرج رامي فرح ( ذاكرتنا تنتمي لنا) وفي هذا الفيلم الذي استمر العمل عليه أكثر من ثمانية أعوام، استطاع المخرج رامي فرح في تجربته الوثائقية الطويلة الثانية بعد فيلم (كوميدي في مأساة سورية) الذي تناول قصة الفنان السوري فارس الحلو و صراعه في التحول الكبير الذي طرأ في بلاده سوريا حينما خرج الشعب السوري طلباً للحرية.
في فيلم ( ذاكرتنا تنتمي إلينا) يُصر المخرج على مزج الحاضر بالماضي، ذلك الماضي غير البعيد أبداً و الذي بني حاضرنا كسوريين بناء على أحداثه، مواقف اتخذها أبطال الفيلم مثلهم مثل ملايين من السوريين الذين خرجوا طلباً لحلم التغيير و انتقال البلاد إلى واقع أكثر تقدماً و أملاً، تلك المواقف أسست بشكل مباشر لحاضر هذه الشخصيات و احباطاتها و نجاحها أو فشلها.
يعمل المخرج على بث أرشيف متعلق بالثورة السورية عبر شاشة ضخمة فوق خشبة صالة سينما، بحضور جسدي و فيزيائي مباشر لأبطال الفيلم الذين تشكل أجسادهم ظلالاً فوق صور الدمار والقصف والقناصة المنتشرة في شوراع درعا وتحديداً حي "طريق السد" الذي اندلعت فيه مواجهات كبيرة جداً بين الطرفين، وأدت إلى نتائج كارثية على أبناء الحي و على ثوار درعا ومنهم أبطال الفيلم الثلاثة، يدن دراجي و عدي الطالب و راني المسالمة…حيث كان حضورهم في مواجهة الذاكرة/ذاكرتهم…أشبه بمواجهة بين الحاضر والماضي، أو جردة حساب ينفذها الحاضر أمام ماضيه غير البعيد، بحضور الآخر الذي يمثله المخرج تارة، والمشاهدون تارة أخرى، حيث انتقل المخرج من موقعه خلف الكاميرا ليتمترس مع الأبطال في مواجهة المادة الفيلمية الأليمة، في حركة تغريبية حادة، وكأن المخرج يصرخ بجمهوره قائلاً : هأنذا أمثلكم في مواجهة ماضينا المشترك، تعالوا نشاهد جميعاً ما حل بنا، ونتفكر في مآل أوضاعنا.
تلك المواد الفيلمية التي مسّت الجميع على خشبة مسرح الفيلم بمن فيهم الجمهور في صالة عرض الفيلم، والتي أدمن البعض من جمهور الثورة و متابعي الشأن السوري متابعتها لدرجة التبلد، انبثقت من جديد بحضور أبطال الحدث، أبناء الحي و أصحاب الوتر.
فأصبح السرد محمولاً بشكل مباشر عبر شخوص الحدث و أبطاله، في ماضيهم و حاضرهم المتماثل، بين الفعل و النتيجة، بين الرصاصة والدمعة التي تليها، اصطف أبطال الفيلم يشيعون مدينتهم، أمام الجميع بدموع من أمامهم و دموعهم و دموع من خلفهم.
يستعرض الفيلم أحداث معارك "حي طريق السد" ومأساة أبناءه، القناص المتمركز في بناء "رسلان الشهير"، و مأساة استشهاد "محمد الحوراني" أبو نمر رابع أبطال الفيلم، أمام كاميرات قناة الجزيرة ، و كاميرات أبطال الفيلم و أعينهم، وأعيننا، في قصة موت معلن، وثقها الجميع و نشاهدها كلنا اليوم في مكان و زمان مختلفين، رغم توقف أزيز الرصاص و زئير جنازير الدبابات، لكن الحدث حي في قلوبنا جميعاً و كأنه البارحة، الأبطال يبكون على الخشبة في مواجهة ماضيهم، هل يبكون من الذاكرة المدماة، أم يبكون خوفاً من المستقبل، هل هنالك تطهير .؟
بمعنى هل يجب على المشاهد غير السوري الذي يشاهد كل تلك المآسي أن يقول في قرارة نفسه : حسناً لقد نجونا لأننا لم نفعل مثلهم.
على العكس تماماً، كانت عملية كسر الايهام التي قام بها المخرج كفيلة بنفي التطهير تماماً، فهو يذكرنا في كل لحظة بأن ما نراه ليس فيديوهات قديمة وانما مأساة حاضرة، وبأننا لا يجب علينا الانغماس في المأساة و جلد الذات، وبالتالي ما أهمية تلك المادة الفيلمية في حضور الأبطال أنفسهم، ما هو الأهم التوثيق أم الذاكرة؟ التسجيل أم الروي؟ الايهام أم كسر الايهام…؟
الايهام والانغماس في فكرة الثورة ؟أم التأمل في الثورة ذاتها؟ ومصائر أبطال تلك الثورة.؟
فلو كنا نشاهد المادة الفيلمية فقط، في زمان ما بعد الثورة، فهذا ضرب من الحنين وتأجيج العواطف المجاني، لكن الغوص في مراجعات كبيرة قدمها أبطال من تلك الثورة، يكفي لادراك أننا كنا و ما نزال على حق، وأننا رغم كل ما تكبدناه من هزائم و انكسارات بعضها لا يلتئم، خضنا كجيل ما يجب علينا فعله في ذلك الوقت، ظلال رجال تقف أمام مشاهد الدمار، مع رفض كامل لواقعنا الحالي و ماضينا الذي كنا عليه، هذا ما نحن عليه اليوم.
في شريطه الوثائقي الطويل الثاني يلقي "فرح" علينا السؤال الأشد أهمية فيما جرى في المقتلة السورية و توابعها، هل تنتمي الذاكرة إلينا، هل من الأفضل علينا أن نتذكر ما جرى لنا أم أن ننساه، ما معنى الذاكرة ولم توجد؟.
مما لاشك فيه بأن المخرج يجيب بشكل غير مباشر في الفيلم من خلال أسئلته للأبطال و من خلال إجاباتهم المطولة على الحدث و تعليقهم على ما جرى و كأنهم يعاودون تلخيص المسألة السورية منذ البدايات، بداهة الأسئلة تعيدنا إلى شرعية ما حصل، و هل كانت الأخطاء تنتمي إلينا، هل الحلم المجهض صنيعة أيدينا؟ أم أننا خدعنا واستفقنا على نتيجة مغايرة لما حلمنا به.؟، وهل ينبغي علينا الاستفادة من دروس الماضي لتوجهنا نحو المستقبل.؟
فيلم رامي فرح الجديد في عروضه الفرنسية الأولى يفتح أبواباً مشرعة في تأويل القضية السورية و مصائر أبطالها، أبناء الشعب السوري.
يذكر أن الفيلم حاز على جائزة من مهرجان كوبنهاجن الدولي للأفلام الوثائقية .