”نداء بوست “- تحليل ومتابعة – غزوان الغدير:
“نأمل أن نكون اتخذنا القرار المناسب، القرار الذي نضج منذ فترة طويلة، والاعتراف الفوري بجمهوريتَيْ لوغانسك، ودونيتسك الشعبيتين”.
بهذه الكلمات والتي تحدث بها الرئيس الروسي في خطاب مطول لم يدخر خلاله جهداً في استعراض التاريخ، الجغرافيا، الديموغرافيا، لدرجة أنه عاد فيه قروناً ثلاثة للوراء قائلاً: “هم أقاربنا ولدينا رابطة قوية بين بعضا البعض، هؤلاء المواطنون كانوا يسمون أنفسهم روساً وأرثوذوكس قبل القرن السابع العاشر” في محاولة منه لإضفاء الشرعية على ضمه للإقليمين.
الضمّ والقانون الدولي
يتطلب القانون الدولي أن يصاحب استكمال الدولة لعناصرها إجراء قانوني يتمثل في أن تعترف العائلة الدولية بهذا النظام الجديد، أي أن تسلِم الأشخاص الدولية القائمة باستكمال الدولة الجديدة لكل أركان الدول وقبول التعامل معها كعضو في المجتمع الدولي، ويرى بعض الفقهاء في الاعتراف عملاً إنشائياً تقبل بموجبه الدول زميلة جديدة في المجموعة الدولية وتقر لها بالحقوق والامتيازات المرتبطة بالسيادة.
رغم ذهاب بعض فقهاء القانون الدولي إلى اعتبار أن هذا المذهب يجعل الاعتراف خاضعاً لاعتبارات سياسية، حيث يعبر عن الإرادة الحرة للدول, وهذا ما حصل في حالة جمهوريتي لوغانسك، ودونيتسك. فالعائلة الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الغربية لم تعترف بتلك الجمهوريات التي تشكلت قبل أيام معدودة بل استنكرت ذلك الإعلان من أساسه.
في حين يذهب فقهاء آخرون إلى اعتبار الاعتراف عملاً إظهارياً لشخصية الدولة القانونية, ويؤيد ذاك الرأي فقيه القانون الدولي البارز الدكتور علي صادق أبو هيف الذي ذهب باتجاه أنه متى نشأت الدولة, فإنها تتمتع بمجرد نشوئها بوصف الشخصية الدولية بحكم وجودها, وما الاعتراف إلا عمل انفرادي ومظهر تقتصر وظيفته على الشهادة بنشوء عضو جديد في الجماعة الدولية.
هل تنطبق تلك القواعد على الفعل الروسي؟
يتحدث القانون الدولي حول ضم دولة لأقاليم دولة أخرى مجاورة لها, بأن طُرق الضم تكون من خلال طرق اكتساب أقاليم أصلية عبر الاستيلاء, وذلك في حال لم يكن ذاك الإقليم تابعاً لأحد, وهي طرق اكتساب ناقلة وتكون عبر التنازل، والذي وضعت له ضوابط كأن يكون وضع اليد هادئاً أي غير متنازع عليه، ولا يتبع دولة تحتج على ذاك الضم كما في حالة إقليمي دونيتسك ولوغانسك.
ويتطلب أن يكون وضع اليد قديماً، والحكمة من ذلك احترام الأوضاع القائمة بحيث يصبح الاعتراف ضرورياً لاستقرار النظام الدولي، وكذلك هذا الشرط غير متوفر في الفعل الروسي.
السوابق الروسية
ليس الفعل الروسي جديداً، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تغذي فيها روسيا انفصال جزء من دولة ذات سيادة.
ففي عام 2008, دعمت روسيا انفصال إقليم أبخازيا عن بلده الأم جورجيا، ونتج عن ذلك قيام جمهورية تحمل اسم أوسيتيا الجنوبية, ولم تعترف بتلك الجمهورية إلا روسيا وعدد من الدول المسيطرة على حكوماتها كسورية.
وبعد ذلك بسنوات، وتحديداً في عام 2014، سيطرت قوات مدعومة روسياً على شبه جزيرة القرم، وبعد تلك السيطرة نُظّم استفتاء عام للانضمام لروسيا الاتحادية، لكن أوكرانيا التي يربطها بشبه الجزيرة تلك الطريق البري الوحيد، وخلفها الدول الغربية قررت أن الاستفتاء غير شرعي ولم تعترف بذاك الضم.
ويتشابه نموذج دونيتسك ولوغانسك مع حالة شِبه القرم، فهو يخضع لما يعرف بالقانون الدولي “الاعتراف بالأوضاع الناشئة بطرق غير شرعية”, ويرى غالبية فقهاء القانون الدولي أن “ما بُني على الباطل فهو باطل” ولا يمكن لاعتراف الدول أن يجعل منه حقاً، ولدى سؤالنا للدكتور وسام الدين العكلة أستاذ القانون الدولي أخبرنا بميله لاتجاه هذا المذهب الفقهي.
ماذا بعد الضم؟
لم يشجع روسيا على قيامها بذاك الفعل للمرة الثالثة على التوالي بعد إقليمي أوسيتيا وأبخازيا الجورجيين عام 2008، وشبه جزيرة القرم عام 2014, فقط رد فعل الأسرة الدولية غير الحازم، إنما شجعها كذلك توسع ساحة نفوذها دولياً بعد عام 2014 عبر تواجدها بطريقة “شرعية” في سورية بدعوى من “حكومتها” وجهاً لوجه مع الولايات المتحدة, وبطريقة غير رسمية عبر شركة الخدمات الأمنية فاغنر في كل من ليبيا المُقابلة لإيطاليا، ومالي إحدى ساحات النفوذ الفرنسي التقليدية، مما يمنحها خطوط تماسّ أوسع تناكف بها الغرب، فضلاً عن استخدامها لسلاحها الأقوى الغاز مع ألمانيا، وخط الغاز نورد ستريم 2 الذي انتهى العمل به وبقي التوافق السياسي مع ألمانيا خاصةً، والغرب عامةً هو من يتحكم بصمام تدفق الغاز عبر ذاك الأنبوب.
والأرجح أن ينتهي ضم روسيا لإقليمَيْ دونيتسك ولوغانسك كما مع مَن سبقه في ظل تكرار الغرب بعدم الرغبة بدخول حرب مع روسيا، واكتفائه بالعقوبات الاقتصادية التي تعايشت معها روسيا خلال سنوات خلت.
أين سورية من كل ذلك؟
لا شكَّ أن سورية تمثل لروسيا رمانة الميزان في ساحات النفوذ الروسية، إذْ لا يقتصر تواجدها بها على أنه “شرعي” بدعوة من حكومة دمشق “الشرعية” بل يضعها في موقع جيوسياسي يزيد من جبهات مناكفتها للغرب، وصندوق بريد ترسل من خلاله الرسائل الهامة.
فحين زار الرئيس التركي أوكرانيا ووعد بيعها الطائرات التركية المسيرة لوحت روسيا بدعوة حكومة دمشق للحوار مع “الإدارة الذاتية” ذراع “قسد” و “مسد” التنفيذية, ومن ورائهم “حزب العمال الكردستاني” خصم أنقرة اللدود منذ عقود وخطها الأحمر وأمنها القومي.
رسالة أخرى أرسلتها لإسرائيل حين أجرت طائراتها الحربية مناورات فوق هضبة الجولان المحتلة وتشويشها على الطائرات الإسرائيلية التي اعتادت الإغارة على مواقع للنظام، والميليشيات الإيرانية متى شاءت في إشارة تحذيرية لإسرائيل من دخولها على خط الأزمة الأوكرانية سيكون له عواقب وخيمة على إسرائيل التي اعتادت على دعم يهود العالم أينما وُجدوا، حتى أن إسرائيل تستطيع دعم الرئيس الأوكراني الحالي زيلينسكي بالرغم عن كونه يهودياً.
ومن جانب آخر، فإنه بسيطرة النظام السوري ومن ورائه روسيا على المساحة الأكبر من سورية وصولاً إلى الساحل السوري، تكون روسيا قد تمكنت من الوقوف في أي محاولة مستقبلية للتنقيب عن الغاز، وهو الرقم الأصعب حالياً في معادلة التوازنات الدولية, أو استثماره بما لا يتعارض مع سيطرتها على الأسواق العالمية. أو حتى عبر مرور أنابيب تمر في سورية تصل لأوروبا عبر تركيا.
ولا نبالغ إذا قلنا إن سورية بالنسبة لها تعادل بالأهمية أوكرانيا، والتي تعتبرها “الحديقة الخلفية “أو ساحة نفذوها التقليدية ونعني آسيا الوسطى والقوقاز، وستعزز التحركات الروسية في أوكرانيا محاولة الغرب انتزاع تنازلات منها حتى لو في سورية ذات الأهمية الكبيرة, والتي فرضت على حكومتها اتفاقيات تدعم سيطرتها, كاتفاقيتها مع النظام السوري التي أنشأت بها قاعدة حميميم, ما جعلها لاعباً وازناً في البحر المتوسط كما جعلتها سيطرتها على القرم اللاعب الأكبر في البحر الأسود.
فهل ستكتفي روسيا بتلك الجمهوريات التي تدور في فلكها أم أنها ستنشئ جمهوريات جديدة؟