“نداء بوست”- عواد علي – بغداد
فُجع الوسط الثقافي في العراق، اليوم الجمعة، برحيل عالِم الآثار والباحث العراقي المرموق، ووزير الثقافة السابق الدكتور عبد الأمير الحمداني عن عمر 55 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض الخبيث.
مثّل الحمداني بمسيرته العلمية توجُّهاً مهمّاً في حماية الآثار، والسعي إلى التنقيب وإبراز حضارة الرافدين، بالتواصل مع أهم البعثات، وكتابة البحوث والنشر والتدريس في أبرز الجامعات العالمية، كما كان مثالاً للتعامل السمح والداعم والمتفاني من أجل خدمة الوسط الثقافي أثناء إدارته لوزارة الثقافة والسياحة والآثار.
ونعى الرئيس العراقي برهم صالح الراحل الحمداني قائلاً: “بحزن وألم بالغيْنِ، تلقينا نبأ وفاة الدكتور عبد الأمير الحمداني، الشخصية الثقافية والوزير السابق، والخبير الآثاري البارز في حضارة وادي الرافدين”.
كما نعاه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في بيان اطلع عليه “نداء بوست”، قال فيه “ببالغ الأسى والألم ننعى للأوساط الثقافية والأكاديمية العراقية الدكتور عبد الأمير الحمداني وزير الثقافة السابق وعالم الآثار والشخصية العلمية المعروفة إثر مرض عضال”.
وأضاف: أن “الراحل كان علامةً مضيئةً في الجهد الآثاري والبحث العلمي المختص، وكل ما يتعلق بتقديم المعرفة والتحقيق في الإرث الرافديني، وتأريخ الحضارات العراقية؛ وهو ما كرّس له نفسه وحياته الغنية بالعطاء”.
وتابع الكاظمي: “برحيل الدكتور عبد الأمير الحمداني نكون قد فقدنا عَلَماً أكاديمياً، وباحثاً علمياً، ورجل دولة قدم الكثير للثقافة والمعرفة وخدمة العراق، ولا يسعنا إلا الدعاء بجميل الصبر والسلوان لذويه ومحبّيه وسائر الأسرة الثقافية العراقية”.
كما نعاه وزير الثقافة العراقي الحالي الدكتور حسن ناظم، والاتحاد العامّ للأدباء والكتاب في العراق، ومؤسسات ثقافية عديدة، وجمع من المشتغلين في الآثار والأدباء والفنانين والأكاديميين وأصدقاؤه المقرَّبون، منهم الشاعر والكاتب المسرحي والباحث المُتخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة الدكتور خزعل الماجدي، الذي كتب قائلاً: “رحيل مفجع آخر يطال الآثاريّ العراقي المرموق الدكتور عبدالأمير الحمداني وزير الثقافة السابق، خسارتنا كبيرة به، فهو شخصية حضارية رصينة وأحد أعلام علم الآثار في العراق”.
ورثاه ابن مدينته الشاعر وصاحب مشروع “كتاب في جريدة” شوقي عبد الأمير بقصيدة قال فيها:
“رحل عبد الأمير الحمداني
رحل سليل آلهة سومر
رحل آخِر الكهنة في معابد أور
رحل سميُّ أبي
عبد الأمير
النادبات في مراثي تموز
يسكبن اليوم دموعاً حرّى…
السلالم التي ترتقيها الآن
بُنيت، أولى درجاتها لأقدام الآلهة
الصوتُ الذي تتهجاهُ
أسمعُ أصداءَهُ في حنجرة الوقت
الصلصال الذي تُشرّحُ جُثّته
لم تنطفئ النار الذي صهرته
الكائناتُ السحرية التي احتمتْ
بزوايا الطين وأحداق المسامير
أحافيرُ عشقٍ لبحارِ غربة
الحاضر الذي يشمخ بكبريائه
كان يلهو طفلاً في غابات القصب
في الهور الذي ولدتَ فيه
وأنت تُمسكُ بالذاكرة
مثل سومري بالفالة…”
وكتب الروائي خضير فليح الزيدي قائلاً: “عادت اللقية النادرة إلى الأرض. عن ذلك النجم الذي ترجّل. اللقية النادرة أعلنت كفايتها من الحياة.
نَمْ هانئاً يا عزيزي أبا أوروك.. لقد أعلنت ساعة الرحيل دقّاتها. فالأرض لا تسع النجوم”.
كما نشر الزيدي في صفحته بـ”فيسبوك” مقالاً بعنوان: “قصة الحمداني الحزينة من الألف إلى التراب” روى في إحدى فقراته أن الراحل هرول، بعد حرب 2003، خلف سرّاق الآثار على تخوم المواقع الأثرية في الناصرية، حرصاً منه على إيقاف الهدر من اللقى والرُّقُم التي باتت تُباع في الشوارع، وحرّض الشرطة والأمريكان على حفظ ما تبقى من الآثار، وكانت المواقع قد تعرضت إلى ضربات أمريكية موجعة بـ”اليورانيوم المنضّب” ذلك القاتل الصامت، وقد أعلن الجيش الأمريكي أنه لا يستطيع مساعدته، لأن المسح اللازم لم يتم بعدُ، فتطهير المناطق يحتاج إلى زمن طويل. مما اضطره إلى الذهاب رفقة متبرعين لحماية الآثار من السرقات، بعدما حرّضوا رجال الدين على إصدار فتوى بتحريم سرقة الآثار كثَرْوَة وطنية. واستطاع بجهود شخصية أن يُوقف مهزلة السرقات”.
يُذكر أن عبد الأمير الحمداني ولد في بلدة “الفهود” بمحافظة ذي قار (الناصرية)، جنوب العراق، وهي الأرض التي شهدت أقدم الحضارات الإنسانية (حضارة سومر).
وفي عام 1987 حصل على بكالوريوس آثار قديمة من قسم الآثار في جامعة بغداد، ثم على ماجستير في علوم الآثار والأنثروبولوجيا من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك الأمريكية عام 2013، وكان عنوان رسالته “العلاقات الاقتصادية والسياسية والمكانية بين القرى والمدن في بلاد سومر في بداية الألف الثانية قبل الميلاد”، وفي عام 2015 نال شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها بأطروحة بعنوان “دول الظل: آثار السلالات الحاكمة في أهوار جنوبي بلاد الرافدين”.
ودرّس فيها، كجزء من متطلبات الحصول على الدكتوراه، الحضارات المقارنة، والعلوم والتكنولوجيا في المجتمعات القديمة، والثورة الزراعية، وحماية وحفظ التراث العالمي، واللغة العربية.
وعُيِّن سنة 2001 منقباً للآثار في الهيئة العامة للآثار والتراث، ثم أصبح مدير آثار محافظة ذي قار للفترة من 2003 حتى 2010، حيث ترأس فريقاً لمسح وتوثيق المواقع الأثرية، وتمكّن من زيارة وتوثيق ما مجموعه 1200 تل أثري في محافظة ذي قار، وأجزاء من المحافظات المجاورة، وشملت مناطق لم يتم مسحها سابقاً، مثل مناطق الأهوار الجنوبية، والبادية الغربية، ومناطق شرق نهر “الغرّاف”. وأجرى تنقيبات في عدد من المواقع الأثرية مع البعثات الوطنية والدولية التي عملت في العراق بعد 2003.
وأعاد للمتحف العراقي نحو 30 ألف قطعة أثرية مسروقة، أو معدة للتهريب من المواقع الأثرية، وأعدّ خلال الفترة من 2012- 2015 قاعدة بيانات وأطلساً رقمياً للمواقع الأثرية في العراق باستخدام خرائط ومسوحات سابقة وصور جوية عالية الدقة.
وأسهم في إعداد ملف ترشيح مدن “أور”، “أريدو”، “أوروك” والأهوار إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
وشارك في العديد من المؤتمرات الوطنية والدولية عن الآثار، وألقى محاضرات في العديد من الجامعات الأوروبية والأمريكية عن الآثار العراقية.
وعمل مدير تحرير مجلة “الآداب السومرية” عام 2005، ووزيراً للثقافة والسياحة والآثار (2018- 2019) وكان عضواً في جمعية الآثاريين، واتحاد الصحافيين في العراق، ورئيساً لاتحاد الأدباء والكُتّاب في محافظة ذي قار عام 2009.
وكان الحمداني زميلاً للعديد من المؤسسات والمراكز البحثية والأكاديمية العالمية، منها: صندوق التراث العالمي، والمركز الدولي لصيانة الممتلكات الثقافية، والمؤتمر الدولي للآثار، والمجلس الدولي للمتاحف، والمجلس الأمريكي لمراكز بحوث ما وراء البحار، والمعهد الأمريكي للدراسات الأكاديمية في العراق، ومؤسسة التراث العراقي، ومؤسسة أصوات من أجل العراق.