لقد قامت روسيا بتسميم أليكسي نافالني بغاز أعصاب منذ أكثر من عام، وقد ردت الولايات المتحدة وحلفاؤها في آخِر اجتماعات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) من خلال تقديم مجموعة واهية من الأسئلة لموسكو حول الحادث. ولا بد أن ذلك جاء من حُسن حظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فهذا الإجراء الأكاديمي، بقيادة المملكة المتحدة وبدعم من إدارة بايدن، لن يحاسب موسكو على سلوكها.
وقد اجتمعت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في "لاهاي" في شهر تشرين الأول/ أكتوبر لتطبيق اتفاقية الأسلحة الكيماوية لعام 1993، والتي لها هدف واضح يتمثل في القضاء على الأسلحة الكيماوية. ولم يتخذ المجلس التنفيذي، وهو هيئة صنع السياسات في المنظمة المكونة من 41 عضواً، أي إجراء رسمي ضد روسيا، على الرغم من أنه كان الاجتماع الخامس للهيئة منذ تسميم نافالني.
وفي شهر آب/ أغسطس من عام 2020، أُصيب نافالني بالمرض على متن رحلة داخل روسيا وتم نقله في النهاية إلى ألمانيا. وأكد العديد من المختبرات، بما في ذلك الذي تستخدمه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وجود عامل أعصاب كيميائي، "نوفيتشوك"، في جهازه العصبي. وللعلم فإن الاتحاد السوفيتي هو الدولة الوحيدة المعروفة بتطوير نوفيتشوك. وقد زعمت موسكو في عام 2017 أنها فككت مخزونها الموروث من الأسلحة الكيماوية، لكن هناك أدلة كثيرة تشير إلى خلاف ذلك.
إن تسميم نافالني لم يكن أول استخدام لبوتين لنوفيتشوك. فقبل أكثر من ثلاث سنوات، استخدمته موسكو خلال محاولة اغتيال في المملكة المتحدة للعميل الروسي المزدوج، سيرجي سكريبال. وقد أسفر الهجوم في حينها عن مقتل مواطن بريطاني وإصابة عدد آخر.
وفي كِلا الهجومين، كشفت السلطات ووسائل الإعلام عن ضلوع كبير لنشطاء روس.
وقد ردت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على تسميم نافالني بفرض عقوبات على الكيانات والأفراد المرتبطين ببرنامج الأسلحة الكيماوية الروسي. لكن رد منظمة حظر الأسلحة الكيميائية اقتصر إلى حد كبير على التصريحات شديدة اللهجة التي تدين أنشطة روسيا والتي تجاهلها بوتين كما كان متوقعاً.
وفي اليوم الأول من اجتماع المجلس التنفيذي، قادت المملكة المتحدة تحالفاً من 44 دولة عضواً أخرى تطلب رسمياً أن تجيب روسيا على الأسئلة المتعلقة بحادث نافالني بموجب المادة التاسعة من اتفاقية الأسلحة الكيميائية، والتي تمنح الدول الأعضاء الفرصة "للحصول على توضيح من دولة طرف أخرى بشأن أي موقف يمكن اعتباره غامضاً أو يثير قلقاً بشأن عدم امتثالها المحتمل "لاتفاقية الأسلحة الكيميائية". وتم منح موسكو عشرة أيام للرد.
وبطريقة يتوقعها كل الذين يتابعون إثارة المشاكل الروسية في المنظمات الدولية، قامت موسكو بالرد بعد يومين بتوجيه انتقادات ضد الجهد بأكمله. وقدمت روسيا وثيقة ضخمة من 235 صفحة مليئة بالتَّوَافِهِ والمعلومات المضلِّلة، رافضةً الأدلة على هجوم بالأسلحة الكيميائية ضد نافالني ومُشكِّكةً في مصداقية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية كلياً. وقد قررت روسيا أيضاً استخدام المادة التاسعة لتقديم مجموعة الأسئلة الخاصة بها إلى المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا والسويد والأمانة الفنية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكلها اكتشفت نوفيتشوك في عينات نافالني الطبية الحيوية أو عينات ضحايا من المملكة المتحدة. وقامت بعثة المملكة المتحدة لدى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بالتغريد أن روسيا "لا تتفاعل مع (الأسئلة) وبالتالي لا تَفِي بالتزاماتها بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية".
ولطالما خلقت موسكو عقباتٍ أمام عمل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وكانت تتوق للنزاع. ففي منظمة اعتادت تمرير القرارات بالإجماع، تقوم روسيا الآن بفرض موادَّ على طرح البنود للتصويت، مما يؤخر المجلس عن اعتماد بنود روتينية مثل الميزانيات وجداول الأعمال. وفيما يتعلق بالعديد من القضايا الجوهرية، فإنها تقوم بالتخلص من أصوات الدول الأعضاء التي لا تريد التصويت ضد روسيا أو تختار عدم التدخل والامتناع عن التصويت.
إن روسيا بارعة تماماً في محاولة استخدام المنظمة لتحقيق هدفها المتمثل في إضعاف اتفاقية الأسلحة الكيميائية ونزع الشرعية عن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. فلقد وفرت روسيا لنظامها العميل في سورية الحماية لسنوات من عواقب الاستخدام الفاضح للأسلحة الكيماوية. وبينما حققت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إنجازاتٍ كبيرةً في تفكيك أسلحته الكيميائية، لم يمتثل النظام السوري بالكامل، واستمر في استخدام هذه الأسلحة حتى بعد انضمامه إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في عام 2013. وبعد أكثر من سبع سنوات من الاشتباكات والعرقلة الروسية، قامت الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أخيراً بتعليق عضوية النظام السوري في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في وقت سابق من هذا العام.
ويبدو أن نهج الاحتراق البطيء في استخدام روسيا للأسلحة الكيميائية يعكس خطة طويلة الأجل من جانب المملكة المتحدة والولايات المتحدة وشركائها لفرض المساءلة. وكانت العقوبات والإدانات الأمريكية والأوروبية التي أعقبت هجمات المملكة المتحدة ونافالني مهمة، لكن الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية يجب أن تعطي موسكو إنذاراً نهائياً للامتثال. وعلى وجه التحديد، يجب على التحالف استخدام النموذج السوري حيث أعطى المجلس دمشق 90 يوماً للامتثال أو مواجهة العواقب. وإذا لم تمتثل موسكو، فيجب على الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية تعليق حقوق وامتيازات التصويت لروسيا، بما في ذلك قدرتها على تولّي أي مناصب.
وفي عملية مراجعة للدول الخمس والأربعين التي أيَّدت الرسالة التي تطلب توضيحات من روسيا بموجب المادة التاسعة يَتَّضِح أن المهمة شاقة فـ 15 دولة فقط من الموقِّعين هم أعضاء في المجلس التنفيذي، وهناك حاجة إلى 28 صوتاً لتمرير إجراء جوهري في المجلس.
وإذا ما أراد التحالف أن ينجح في تمرير إنذار نهائي لامتثال موسكو، فستحتاج الحكومات الرئيسية إلى إجراء تحرُّكات دبلوماسية مهمة وجمع الأصوات لصالحها. ويجب متابعة هذه الجهود على أعلى المستويات، بما في ذلك رئيس الوزراء بوريس جونسون والرئيس جو بايدن.
ولكن لا يزال هناك أمل. ففي مؤتمر الدول الأطراف في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الذي ضم 193 عضواً في الربيع الماضي، وقَّع 18 عضواً في المجلس التنفيذي الحالي على بيان يدين هجوم نافالني، وصوَّت 28 عضواً حالياً لصالح تعليق عضوية سورية. وستحتاج المملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى إقناع الممتنعين عن التصويت بشكل متكرِّر لاتخاذ موقف حاسم والتمسُّك بالمعايير العالمية لمكافحة الأسلحة الكيميائية فمن الواضح أن تقديم الأسئلة أدَّى إلى نتائج عكسية على الولايات المتحدة وحلفائها.
ولقد وفّرت لدبلوماسيي بوتين فرصة مثالية لإثارة الشك وتأخير العمل الهادف. ومع ذلك، قالت إدارة بايدن بوضوح: إن روسيا سمَّمت نافالني، ويجب أن تكون هناك مُساءَلة عن هذا الإجراء. والآن يجب على الإدارة وشركائها القيامُ بالجُهد الدبلوماسي المُثقَل بالأعباء للدَّعْوة إلى تغيير حقيقي في منظمة حَظْر الأسلحة الكيميائية.
المصدر: ذا هيل / ترجمة: عبد الحميد فحام