لم يكن الاعتداءُ على حياة وحقوق الإنسان هو الفعلَ الإجراميَّ الوحيدَ الذي ارتكبته منظومة الاستبداد الأسدية بحق سورية وأهلها، بل امتد إجرامها إلى استخدام اللغة ودلالاتها، تشويهاً وتحقيراً. فلا تجد مفردةً أو عبارةً ذات قيمة رفيعة نبيلة أو ذات قداسة إلا وتمَّ تدنيسها لغايةٍ تتجاوز غزو الجسد والحياة والرزق، إلى غزوٍ للعقل والروح والقِيَم.
فبينما تقوم الثقافات الأخرى بتهذيب وتشذيب وتكريس عُذوبة وصدق لغتها بمفرداتها وعباراتها؛ وإعطائها زخماً دلالياً يعكس عمقاً ثقافيا وحضارياً ووجدانياً؛ دأبت تلك المنظومة الاستبدادية على تَعهِير ما له قداسة؛ تسحق حُسْنَ ما هو طيّب، وتعكس ما هو خيّر وإيجابي وحامل لقداسة خاصة في تراث وتاريخ وقِيَم الثقافة واللغة العربية وحاضنتها الحضارية الإنسانية.
“الأب القائد” عبارة لها قداستها ثقافياً وتربوياً؛ درجت على ألسنة السوريين، ليكتشفوا لاحقاً أن الأب لا يمتلك من معنى العبارة إلا اسمها، فهو الظالم المتجبّر المتكبّر المعقَّد، الذي يُذلّ ويسحق ويعتقل ويدمِّر؛ وهو “القائد” إلى الخيبة والخوف والفقر واليأس. وهو “المعلم” على الجهل والتجهيل والفساد والإفساد.
و”التصحيح” تخريب وتخلف وانحطاط وضياع. و”التحرير” احتلال وهزيمة وانكسار وابتلاع العدو مغتصب الأرض للحقوق. و”طالب الحرية” خائن وعميل ومُضعفٌ “للشعور الوطني”.
و”المقاومة” خنق وقتل كل صوت حرّ. و”الممانعة” حَجْرٌ وتقييدٌ لكل مَلْمَح تطوُّر أو تقدُّم. و”الصمود” تحمُّل الذلّ والإذلال والصبر على العَوَز والفقر. و”التصدي” استخدام أبشع أنواع العنف في وجه كل مَن لا يثبُت أنه راضخ مستسلم لمشيئة “القيادة الحكيمة”.
لـ”فلسطين” و”القدس” قيمة وقداسة خاصة في العالم، وليس في بلادنا فقط، أو سورية تحديداً.
لقد خاضت البشرية حروباً من أجلهما؛ والغرب شنّ الحروب الصليبية ليضع يده على مهد المسيحية؛ وإمبراطوريات قاست قوتها بمدى سيطرتها عليها؛ وأهل الشام عادلت فلسطين والقدس أرواحهم في صَوْنها والدفاع عنها؛ فكانت قضيتهم الأولى في التاريخ الحديث، فقداستها كقداسة مَكَّتهم. أما في عهد المنظومة الاستبدادية الأسدية، فتحولت إلى “فرع فلسطين” المخابراتي للاعتقال والترهيب والقتل تحت التعذيب؛ فمجرد ذكر الاسم يُثير رعباً يصعُب تصوُّره أو تصويره. و”القدس” أطلقها ملالي “قُم” -توأم الأسدية- على ما سَمَّوْه “فيلق القدس” المؤلف من عصابات اختصت بقتل أهل القدس وفلسطين وسورية. وكل ذلك لتكريه القدس وفلسطين إلى الناس والكفر بهما.
مِن جانب آخر -وتخصيصاً عند المسيحيين- واستمراراً في الحديث عن المعتقلات في دولة الأسد؛ هناك أسماء كـ”صيدنايا” و”عذرا”، تحمل قداسة خاصة؛ جعلت منها منظومة الاستبداد مقابر للأحياء. فبدل أن يكون اسم السيدة “العذراء” رمزاً للرحمة، و”صيدنايا” مكاناً للأمان والخلاص، تحوّلا إلى حظائر للتعذيب بكل صنوفه، حتى الذي يصعب تخيّله.
في “صيدنايا” هناك أفران لحرق المعتقلين؛ وهذا موثّق. وتحضرني في هذا السياق تصريحات البطريرك “الراعي” “اللبناني” “المسيحي للأسف”، عندما يُصِرّ على إعادة السوريين الذين لجؤوا إلى لبنان بالقوة. ليعرف هذا “المسيحي” بأن “العذرا” و”صيدنايا” لم تعودا مسيحيات؛ فهل يؤثر هذا على كهنوته؟!
لم يكن العبث بهذا القداسات من فراغ؛ فقد سبق أن تمّ امتطاء وتشويه عبارات تحمل قداسات خاصة لملايين البشر عَبْر السطو على فعل من أفعال الله خالق هذا الكون؛ وتحديداً “البعث”. لقد تحوّل “البعث” السياسي إلى عبث بمصير أمة: ادَّعى توحيدها، فمزَّقها وزادها تبعثُراً؛ قال بحريتها، فقمعها واستعبدها؛ تحدث بالمساواة وتكافُؤ الفرص، فأَفْقَرها وعَنْصَرَها. ثم أتى من ركب على البعث، وجعله عصَا قمعٍ وتسلُّط بيد الحاكم بأمره.
وكما لفلسطين والقدس والعذرا والبعث قداسة، لـ”سورية” الاسم قداسة؛ فهي السيدة والسامية والسر والقداسة. فما كان من حافظ الأسد إلا السطو عليها وفرض كنيته عليها، ليجعلها “سورية الأسد”. ويُقال في هذا السياق إنه حتى اسم “الأسد” قد تم السطو عليه وسرقته بعد أن كان اسم تلك العائلة المأفونة: “الوحش”؛ وبذا تم تحويله من رمز للقوة والإباء والنبل إلى اسم كريه مرتبط بالجريمة، أما الأخطر من كل ما ورد فهو الاعتداء على الذات الإلهية.
فعندما تُمَكِّن ممارسات الحاكم الاستبدادية من دفع أدواتِ قَتْله شِبه الآدميين إلى إجبار مُعتقَل على القولِ إن “لا إله إلا بشار”؛ فهذا ليس اعتداءً على اللغة وتعابيرها ودلالاتها، بل على الله وعلى الكينونة البشرية ومعتقداتها وثقافاتها ووجودها.
هذا ليس اعتداءً وتَعْهِيراً للغة ودلالاتها فقط؛ إنه اعتداء على الحياة، على الإنسان، وعلى الله أيضاً. نحن أمام منظومة لا تعيش إلا بسَحْق الآخر؛ فإما هي، أو الموت والدمار. من هنا أتت شعاراتها: “الأسد أو لا أحد” ، “الأسد أو نحرق البلد”. ومن هنا الخلاص من هذه الطُّغْمة -محدودة العدد- هو خلاص للبلد وللإنسان؛ وهو العودة إلى الحياة.