عَوَز، وفقر، وإذلال، واعتقال، واغتيال، ومخدرات، وموت بطيء مستمر، وطموح وحيد عند غالبية مَن هو موجود حيث "النظام" بالخروج من هذه "الجهنم".
وفي الضفة الأخرى، يتبعثر أكثر من نصف سكان سورية خارج بيوتهم في أربعة أصقاع الأرض. و "هيومن رايتس ووتش/ Human Rights Watch " تُعنوِن تقريراً لها: "حياة أشبه بالموت".
ذلك هو وضع شعب سورية، الذي يتباكى عليه بعض المنافقين. فرغم أن هذا هو حال ملايين السوريين، يجري الحديث عن إعادة تأهيل طغمة لا يتجاوز عددها المئات تحت يافطة "انتصارها" على الإرهاب والمؤامرة الكونية. وها هم البعض يتزاحمون على بوابتها؛ ويزورونها، وهم ذاتهم مَن وصفوها بالأمس بأقذع الأوصاف.
بالأمس، وعند الاستماع لوصف سابق للسيد "محمد بن زايد" لنظام بشار الأسد بالقاتل؛ ونراه اليوم يصافحه؛ رغم أن شيئاً لم يتغيّر في موقف أو سلوك هذا "النظام"؛ ندرك تماماً أن هناك حملة بهلوانية يائسة بائسة تقودها موسكو لإعادة منظومة الاستبداد مُستخدِمةً مَن يتصور أن لديه غطاءً إسرائيلياً في وجه أمريكا، ومن تعوَّد العيش على لعق الدماء والمواقف كأداة.
ربما لا يدرك أهل هذه الحملة الساقطة أن إعادة إعمار الحَجَر والتباهي بأطول برج ناطح للسحاب لا تعيد تأهيلَ أو إعمارَ النفوس والعقول والإرادات والمنظومات الذهنية للبشر، ولا تصنع من "الوسخ" معجون أسنان.
إذا كانت الحُجة "إنقاذ الشعب السوري"، فهي واهية وغير صادقة، لأن مَن يريد إنقاذ السوريين، كان بإمكانه إنقاذهم من قَاتِلهم خلال عشرة أعوام. وإذا كانت ذريعة التقارب إبعادَ إيران من سورية وعنها؛ فلا يعيد لها تأهيل نصفها الآخر، ويعزز أداتها في تخريب المنطقة.
وإذا كان رهان البعض بأن تكون لهم الكلمة الفصل في مصير ومستقبل سورية، فهذا الرهان بوجود منظومة إجرامية فعلت ما فعلت في سورية ليس إلا استثماراً فاشلاً في منظومة موبوءة مصيرها تلويث مَن يقترب منها.
فلا روسيا ولا إيران ولا أي قوة تسعى لإنقاذ أو إعادة تكرير هذه المنظومة ستنجح؛ ولكنها على العكس تماماً ستُضعفها أكثرَ وتجعلها ورقة للمساومة.
وكل تلك المحاولات البهلوانية ستعطي مفاعيلَ عكسيةً؛ فبدل الانفتاح، فإنها تفتح قِدْر القاذورات، وتستفزّ وتستنفر مَن يدير ظهره لظاهرة الإجرام القائمة. وما إسراع أمريكا باستهجان أو استنكار الخطوة (ولو لذرّ الرماد في العيون) إلا دلالة على فتح العيون من جديد على منجم الإجرام هذا.
رغم أن "حُسن النوايا" لا علاقة له بعالم السياسة، لنفترض أن النوايا حسنة؛ والغاية من خطوات كهذه هي إعادة تأهيل سورية بملايينها؛ ألا يستلزم أمر كهذا ثقةً ومصداقيةً وخبرةً لدى مَن يُراد إعادة تأهيله؟! وهل ما زال غير واضح أن الثقة والمصداقية لا مكان لهما في قاموس منظومة معطوبة بِنْيوياً وأخلاقياً؟! ألم يثبت بالدليل القاطع أن خبرتها الوحيدة محصورة بالقتل والحواجز والاعتقال والمخدرات وبيع الأوطان للمحتل؟! وهل هذا يعيد إعمار أوطان أو يعيد لاجئين؟
وإذا ما أُجري استبيان حقيقي لمن لا يزال مضطراً أو مُرغَماً أو رمادياً أو مختاراً لاستفادته من بقايا هذه المنظومة، فلن يظهر أي ثقة أو قبول حتى من هؤلاء. فما لم يحصل للمستفتين، شهدوه بأمّ أعينهم يُمارَس على آخرين؛ فهذه المنظومة لا أمان لها بحكم بِنْيتها المسمومة. فهي ليست إلا وباء ورائحة نَتِنة لا يمكن العيش أو التعايش معها.
يدرك هؤلاء أنهم حتى ولو لم يشتركوا مباشرة بجريمتها بحق سورية عامة، فالجريمة تطالهم. وما نأيهم بأنفسهم عنها إلا بعضاً من التكفير عن صمتهم على الجريمة. ما حدث وما ارتكبته منظومة الاستبداد الإجرامية لا يسقط بالتقادم، ولا يُنسى، ولا تنازُل عنه أو مسامحة من تلك الملايين المجروحة، أكانت معه أو ضده.
لا بد كسوريين من حل وعودة لاجئين وإعادة إعمار، ولكن خارج معادلات الجميع. لقد كان "اللانظام" وخرق القانون، والقهر، والظلم، وانسداد الآفاق، والعذابات، دروساً مريرةً صَقَلت معظم السوريين الذين تركوا تلك البقعة الجغرافية الموبوءة بكل ذلك.
لقد أطَلَّ هؤلاء السوريون على ما يعاكسها تماماً؛ فكانت لهم فرصة انطلاقة جبّارة؛ هم ذاتهم مَن سيعيد الإعمار، وبهم سترجع سورية إلى سكّة الحياة.
حيث هُم الآن، القانون مسألة مقدسة، والحرية كالهواء، والفرص لمن اجتهد وبنى ذاته دون تمييز، والعلم والمعرفة والارتقاء بقدر الجهد لا بقدر التدخلات الجائرة. لقد أطل السوريون الناجون على مؤسسات تلك الدول التي تحوّلت إلى مستقر لهم، فعرفوا قوانينها وهيكليتها ومنهجية عملها؛ ولن يعجزوا عن بناء ما يشبهها ويفوقها؛ وهذا الذي سيعيد بناء سورية البشر والحجر.
زمننا يتسارع، ويتحوّل إلى "لوغارثمات" تكثف كل شيء؛ وهذا السوري على اطلاع بهذا المنجز، ودخل به. أما منظومة الاستبداد، فتريد أن تُوقِف الزمن، أو تعيده إلى الخلف، أو تُفصِّله حسب إرادتها المريضة. وعملياً هي اضمحلت، وتتلاشى، وأضحت خارج الزمن. ولن يتفاعل أهل زماننا إلا مع مَن يثق بهم، لا مع مَن أضحوا بأفعالهم الإجرامية الحالة النشاز.
ولا يطبّع مع قاتل إلا مَن هو مثله، أو معاقٌ عقلياً وأخلاقياً أو رخيصٌ. حتى أولئك الذين ساعدوه بالقتل لن يجدوا مصلحتهم معه. فلا حياة ولا مستقبل له؛ وخاصة أنه تحت هذه المقاطعة العالمية ككارثة خارج الزمن.
باختصار شديد، لم يعد هناك "نظام" في سورية اليوم؛ نحن أمام مجرد عصابة تحاول التماسك، لكن لا تستطيع؛ فليس من طبيعتها أن تكون نظاماً أو تخضع لقانون؛ إنها مجرد منظومة معتمدة ببقائها الآن على بيع سيادة سورية واستقلالها؛ وعلى تحقيق مصالح الآخرين المحتلين؛ وعلى ما يوفرونه لها من قوة عسكرية؛ وعلى الإرهاب منهجاً وأداةً، والخطف وأخذ الرهائن والمخدرات اقتصاداً. منظومةٌ كهذه يستحيل إعادةُ تأهيلها. وبذلك يصبح الأمر نوعاً من محاولة استدراج التنازلات حيال الموقف الأمريكي في ملفات أخرى… لكنه في النهاية لَعِب بالنار.