كان الجزء الأول من هذا المقال رحلة سريعة في غياهب العلاقة “الأمرو-إيرانية” المحكومة -على الأرجح- بضوابط الدولة العميقة وأيديولوجياتها وتشبيكاتها العالمية في كِلا البلدين. في الظاهر، العداء مستحكم بينهما: بالنسبة لإيران، أمريكا شرٌ مطلق، هي الشيطان الأكبر، وهي وراء مآسي كوكبنا؛ بالنسبة لأمريكا، إيران منظومة مارقة، خطر على محيطها، محكومة بنظام ثيوقراطي مستبد، وتسعى لامتلاك أسلحة دمار شامل. في الباطن –وهذا الواقع، وليس جزءاً من نظرية المؤامرة-: أمريكا العميقة ترى بإيران فزّاعة المنطقة الأغنى والأهم إستراتيجياً في المنطقة، وهي الأداة الإرهابية التي تخفف أو تلطف من القباحة الصهيونية، وهي المبرر للوقوف في وجه العدو الجديد “الإسلام”، وبقايا العدو القديم روسيا وريثة السوفييت.
أما إيران العميقة، فترى بأمريكا الأقوى في العالم، وهي التي مكّنت الملالي من البقاء، “لوبياتها” الإيرانية وغيرها تسرح وتمرح في واشنطن مع المفتاحين في أي إدارة أمريكية، وهي عند شِدة الملالي موجودة: في حربها مع العراق، وحرب أمريكا عليه، وفي حرب أمريكا على أفغانستان، وإعطاء دور لإيران، وفي منح الفسحة لتدخل إيران في أربع عواصم عربية تدور في الفلك الأمريكي؛ وخاصة الدور الذي لعبته في الساحة السورية.
مجدداً، يحكم تطور العلاقة ومآلاتها أو آفاقها المستقبلية بين البلدين ملف أساسي قوامه الدور الإيراني في الساحة الإقليمية والدولية. وتشكّل جملةُ المواضيع الأخرى بين البلدين، كالملف النووي، والوضع الداخلي، والعقوبات، والاستهدافات العسكرية مجرد تفصيلات وتجليات وإرهاصات تدور في فلك هذا المحور الأساس. ففي الدور- ومع الفارق في النشأة والتكوين- تبقى منافسة إسرائيل للعب دور حربة أمريكا المتقدمة، وشرطي وفزّاعة منطقة هي الأهم في امتدادات ونفوذ أمريكا جيواستراتيجياً، والمحدد الأساس لتحديد شكل العلاقة بينهما. ولكن تفاعل الملفات التي تدور حول محور الدور وانكشاف التجاذبات في الملف النووي خاصة، والاستهدافات الإسرائيلية شبه اليومية لمواقع إيرانية في سورية، تستلزم شكلاً جديداً للعلاقة وتغيرات في شروط الاشتباك سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وما الأكثر دلالة على هذه التطورات بشكل يختلف عمّا سبق، إلا علنية النوايا “الأمريكية-الإسرائيلية ” عن عزمهما إجراء مناورات عسكرية مشتركة تحاكي قصفاً موسّعاً لإيران في عقر دارها. وضِمن هذا السياق، نشهد استنفاراً عسكرياً لبعض دول المنطقة، وتحديداً سعودياً وإسرائيلياً ولّدته زيارات متبادلة لمسؤولين أمريكيين وإقليميين.
في الغليان الإقليمي، وإضافة إلى تأثر المنطقة بالحرب “الروسية-الأوكرانية”، هناك غليان داخلي إيراني، وإقليمي يخص امتدادات أذرع إيران في المنطقة. هناك مدن إيرانية سقطت بأيدي المتظاهرين، وهناك تصفيات لبعض قادة الحرس الثوري الإيراني، وهناك الفقر والتدهور الاقتصادي، وهناك استشعار داخلي للاستنزاف الذي تخلّفه امتدادات أذرع الملالي في المنطقة. عطالة وفشل هذه الأذرع في المنطقة لم يأتِ من فراغ؛ ولا شك أن الأذرع الأمريكية فاعلة في كل ما يحدث؛ ولقاءات بعض مسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين مع المعارضة الإيرانية تفيد بذلك.
ما يجري على الساحة السورية وتجاذبات مصالح الأطراف المتدخلة في القضية السورية يشكّل صواعق التطور الأهم في العلاقة المستقبلية وآفاقها بين أمريكا وإيران. فاضطرابات العراق واحتمالية نشوب صراع دموي بين مَن على ضفة إيران ومَن على ضفة العراق، وخسارة المجموعة الأولى للانتخابات؛ وانتكاسة حزب الله أداة الملالي وحلفائه في انتخابات لبنان، واحتلال إيران لبعض مواقع تخليها روسيا في سورية، واعتبار ذلك تعويضاً عن انتكاساتها ما يوسّع نطاق الاستهدافات الإسرائيلية لها… كل ذلك يستلزم تغيُّراً في قواعد الاشتباك والوصول إلى مشارف الخطوط الحمراء التي بتجاوزها، غفلةً أو عمداً، سيُفتح فصلٌ جديدٌ ربما يكون ترجمة واقعية للمناورات المشتركة “الإسرائيلية- الأمريكية”.
هناك ما يمكن أن يسحب الصواعق من سيناريو كهذا، ويعيد تعزيز الدور؛ ويتمثل بقيام ملالي إيران بتنفيذ ما تريده أمريكا من إيران في الأعماق، وهو الوقوف العلني في وجه بوتين وصولاً إلى التصريح العلني بإدانة غزو روسيا لأوكرانيا. وعلى أرض الواقع وضع نفطها وغازها بخدمة سدّ الفراغ الذي تركته حرب بوتين الغازيّة على أوروبا، والابتعاد عن الصين والهند، وإبقاء حالة الفزّاعة في الخليج، وإقلاق راحة تركيا، وتنظيم أمور “القاعدة”. فهل يقدر الملالي على فعل ذلك، أم سيعودون إلى مسلك الضبع الذي ينتظر انتهاء الأسد من التصرف مع الفريسة؟! ها هي ميليشيات إيران تملأ الفراغات التي تتركها موسكو على الأرض السورية؛ فهل هذا تعبير عما تريده أمريكا؟! لا أحد يرجِّح ذلك؛ حيث إن إسرائيل (منافسها على شرطي المنطقة) ستجد ذلك الفرصة الأنسب لاستهداف المزيد من مواقعها على الأرض السورية. هذا إضافة إلى تركيا التي تضيق ذرعاً بالمسلك الإيراني هناك.
هل يستطيع الملالي الخروج من مأزقهم، وقد زاد في طنبورهم نغماً شِبه إجماع عالمي على وَقْف انتشارهم الخبيث في محيطهم وعالمياً؟! أليس الحراك الداخلي الإيراني مختلفاً عن كل ما سبقه؟! إذا كان أحد أهداف امتداد الأذرع الإيرانية خارج حدود فارس للتغطية على خراب الداخل، وهذا التمدد يتكشف ويتعثر ويتحوّل إلى سبب في إشعال الداخل؛ ألا ينهي ذلك دور شرطي أو فزّاعة المنطقة؟!.
والآن، إضافة إلى الانتكاسات التي تحلّ بمشروع الملالي، وانكشاف بُناه ومقارباته الهشّة التي تولد كل هذا الخراب؛ وبحكم الانشغال الروسي بمواجهة العالم، إثر غزو أوكرانيا؛ وتراخي الذراع الروسية في سورية؛ واستنفار إيران لملء هذا الفراغ؛ وبحكم كون سورية درة مشروع إيران في المنطقة؛ وبحكم الاحتمال الأكبر لتعرض هذه الدرة لجملة من المواجهات على أكثر من جبهة تعيد بعثرة الواقع القائم عسكرياً؛ فإن إيران أمام اللحظات المصيرية الحاسمة: إما التصريح بالدور وانكشافه علنياً، والتوقف عن كذبة المقاومة والممانعة والعداء لأمريكا وإسرائيل؛ والموقف الصريح تجاه روسيا؛ أو تحمُّل ما فعلته أمريكا تاريخياً بمن يقود إيران؛ وأول الغيث الإبقاء على الحرس الثوري على لائحة الإرهاب، والمناورات “الأمرو-إسرائيلية، التي تحاكي هجوماً حقيقياً. … وإلا…