”نداء بوست“ – حوارات فكرية – حاوره: أسامة آغي
يتعرض التنويريون لانتقادات شديدة بسبب قراءتهم المختلفة للنصوص القرآنية وللحديث النبوي الشريف، هذه القراءات تختلف بالرؤية والمنهج عن الخطاب الإسلامي السائد، الذي أنتجه بعض العلماء قبل ألف عام ونيّف. بمقابل إهمال أبعاد عديدة في التراث العربي والإسلامي ذاته كانت تنحو باتجاه التنوير وتجديد الخطاب، ليستمر هذا التنازع بين متشبِّث بالنصوص التقليدية، ورافض لإسباغ نوع من القدسيَّة على بعضها، من خارج القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، وهي اجتهادات علمية قابلة للتطوير.
”نداء بوست“ حاوَرَ الدكتور التنويري محمد حبش الذي كان قد أسس عام 2004 مركز الدراسات الإسلامية بدمشق، وله العديد من المساعي نحو تطوير الخطاب، وقد يتفق المرء معه أو يختلف في بعض الجوانب، إلا أن الحوار يبقى هو الوسيلة الأَرْقَى والأكثرَ قدرةً على إتاحة المفاهيم وزوايا النظر إليها.
الإسلاموفوبيا نشأت من أخطائنا
يمكن البحث عن جوهر النزوع إلى التنوير لدى حبش -وهو أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة أبو ظبي- من خلال المشروع الذي طرحه عَبْر 52 كتاباً أصدرها في هذا الصدد.
يقول حبش: نكتب في التنوير الإسلامي وإخاء الأديان وكرامة الإنسان، ونعمل من أجل إسلام حضاري بعد أن انحرف الخطاب الإسلامي عن غايته، وتحوَّل إلى "تَصْنِيم التراث" بدلاً من حمل مقاصده، وصار الدفاع عن التراث هو الغاية بدلاً من إحياء مقاصده وغايته ورسالته.
ويرى حبش أن حُمَّى ”الإسلاموفوبيا" تصاعدت في العقود الأخيرة في العالم، وهذا لا يعني إنكار وجود تآمُر على الإسلام، ولكن النسبة الساحقة من تصاعُد ”الإسلاموفوبيا“ ضد الإسلام والمسلمين ناشئة من أخطائنا وسلوكياتنا.
ويعتقد حبش أن ما قدمناه للعالم من خطاب إقصائيّ استعلائيّ على المستوى النظري، أدى إلى تطرُّف حقيقي، مارس أعمالاً دموية دَمَغَتِ المسلمين بتهمة العنف والكراهية.
ويشرح حبش ما يسميه بمَسار الاستعلاء بالقول: مضى بعض الفقهاء للأسف إلى تكفير الناس بالكلمة والعبارة والقول، وتمّ تعريف العبارات التي تُخرج من الملة وتُوجب الحكمَ بالكفر والردّة في مسطرة واسعة تشمل سائر البشرية وكثيراً من المسلمين، وفي نواقض الإسلام العشرة، التي يوزعها الإخوة السلفيون، ليتم إخراج الناس من الإسلام بالجملة.
هذه الحالة يرى حبش أن بعضاً من السلفيين يعتمد فيها على الاستعانة بنصوص منسوبة إلى السُّنَّة النبوية، ومنها أن الله سيُدخل إلى النار 999 من كلّ ألف إنسان، وهي مُبالَغة خطيرة وغير عقلانية، وفيها إساءة عظيمة لله تعالى، الذي يستمر في الخلق بعد ثُبوت هذه النتائج المشؤومة، وهذا دَفَعَ كثيراً من رجال الدين لتقديم مشروع للجهاد الذي أمرت به الآيات القرآنية بناءً على ثقافة الكراهية.
مَاهِيَّة التنوير الإسلامي
وَفْق هذه الرؤية والمُمارَسة يَجِدُ حبش أن التنوير رسالة نبيلة، بوجه ثقافة الكراهية والاستعلاء والهَيْمَنة، ويدعو إلى فَهْم العالم كما فهمته الأمم المتحضرة، بعد أن خرجت من العصور المظلمة، التي كانت تتحارب فيها كحروبنا البائسة هذه، وانتقلت إلى العالم الجديد القائم على الحق والعدل والقانون.
ويرى حبش أيضاً أن التنوير الذي يقوم به هو نضال بأدوات الفقه نفسها لتقديم فقه جديد، فالشريعة في جوهرها قابلة للتطوير والتقدُّم، وليست بالضرورة واقِفةً عند مَنطِق التيار النَّصِيّ الرافض لكل تطوير.
نمارس الغُلوّ في الدين
سألنا حبش عن قولٍ له: إن النص القرآني يهدي وليس قَيْداً يَأسِر. فأجاب: لقد أنجزت كتابي ”نور يهدي لا قيدٌ يَأسِر“، وفيه قدمت مئات الأدلة من كُتب التراث الأُولى في سبيل تصحيح وَعْينا بالقرآن الكريم والسُّنّة النبوية الكريمة، والتوقف عن الغُلوّ في فَهْم هذه الأدلة.
ويوضح حبش فكرته قائلاً: لقد أنكر القرآنُ الكريمُ بشدةٍ على أهل الكِتاب غُلوَّهم في شأن المسيح ابن مريم، وأعاد التأكيد مرةً بعد مرة على أنه بشرٌ مثلنا، ولا يجوز الغُلوّ والمبالغة في تمجيده، بما يُخرجه عن دَوْره الإنساني. مُعتقِداً -أي حبش- أننا نمارس هذا الغُلوّ نفسه في القرآن الكريم والسُّنّة، فنخرجها عن سياقها ككتب هداية وإرشاد، وندعو إلى تكريسها ككُتبِ معرفة نهائية وكتب قانون واقتصاد.
ويوضح حبش أنه خلال العقود الأخيرة تم إنفاق مليارات من الأموال في سبيل استحضار إعجاز القرآن الكريم، والوقوف على عجائب اللفظ والمعنى. حتى تحوَّل هذا السعيُ إلى استرزاق لا يليق بكتاب الله، إضافةً إلى المعنى السلبي الذي تحمله هذه الجهود العجائبية في إقفال العقل وتكلُّف الإعجاز.
من جهة أخرى يرى حبش القرآن الكريم على أنه نص أدبي تربوي وأخلاقي، ولا يمكن اعتباره دستوراً، ولا قانوناً، وحين أراد رسول الله حُكمَ مدينةٍ بحجم يثرب في القرن السابع الميلادي، كما يقول، لم يكتفِ بالقرآن الكريم، بل إنه لم يُقحمه في ذلك، ولم يقل: دستورنا
القرآن والسُّنّة، بل كتب كتاباً حقوقياً بينه وبين قبائل العرب واليهود في المدينة، في إقرار واضح، أن الحقوق المدنية والقانونية لا يمكن حَسْمها عبر النصوص الأدبية التربوية، فالقرآن قصص وأخبار، وفيه مترادف كثير ومتشابه كثير ومجاز كثير، وهذا كله يَحُول برأي حبش دون اعتماده نصّاً حقوقيّاً صارماً.
وبرأي حبش يجب أن تكون النصوص القانونية خالية من الترادف والتشابُه والتشبيهات والمجاز، وهو ما يحضر في كل صفحة من صفحات القرآن الكريم، وينتج عنه تعدُّد التفاسير للآية الواحدة، وتوفُّر الاحتمالات التي لا تنتهي، والتي تَزخَر بها كتب التفسير، وهي ظاهرة إيجابية بالطبع في الكتب الأدبية والتربوية، ولكنها ليست كذلك في النصوص القانونية.
الرسول.. وعَقْد يثرب الاجتماعيّ
وللدلالة على وجهة نظره حول ضرورة التمييز بين نص قانوني يحكم العَقْد الاجتماعي بين الفُرَقاء من القبائل العربية واليهودية في يثرب، ونص قرآني يرى فيه كتاباً أدبياً تربوياً، يقول حبش الذي أسس ”رابطة كُتّاب التنوير“ وترأَّس ”جمعية علماء الشريعة" لمرتين: إذا كانت يثرب قبل أربعة عشر قرناً بحاجة إلى نص حقوقي مستقلّ يحسم علاقات الناس ويُنتج عَقْداً اجتماعياً، فكيف يطالبنا رجال الدين اليوم بأن نلغي كل ما أنجزته الإنسانية من معرفة وعلم وتطوُّر وتقدُّم، ونعود إلى حكم النص الأول، وَفْق تأويل السلف، لنستخرج منه نصوصاً تحكم حياتنا في آسيا وأوروبا وأمريكا وهذا العالم الكبير؟
ويضيف موضحاً: النص القرآني والنبوي نور يهدي ومصباح يضيء، ولكنه ليس قَيْداً يَأسِر ولا ”فيتو“ يَحُول دون تقدُّم العلم والمعرفة، فلقد أنجز العالم بكفاحه وسعيه حقوق الإنسان، وصار وثيقة عالمية تلتزمها دول العالم كافَّة، وبات المسلمون مطالبين بالدخول في ما دخلت فيه الإنسانية، ولقد ظلت بلادُ إسلامية كثيراً ترفض إعلان حقوق الإنسان لأنه يلغي العبودية، وظلوا يقولون إنها مذكورة في الكتاب ولا يمكن إلغاؤها، ويرفضون مبدأ المساواة بين المرأة والرجل؛ لأن التفسير السلفي للقرآن الكريم ينكر المساواة.
ويوضح حبش أن التفسير السلفي يرفض التصوير والتماثيل وفنون النحت والموسيقى؛ لأن التفسير السلفي للكتاب والسُّنَّة اعتبر هذه المسائل حراماً، وبذلك فقد وضعوا الدين في مواجهة عقيمة مع الحضارة، وأسهموا في تخلُّف هذه الأمة وغيابها عن دورها الحضاري والتاريخ يوم كان النص نوراً يهدي لا قَيْداً يَأسِر.
ويرى حبش في السلفيين أنهم يرفضون إخاء الأديان لأن النصوص، وَفْق التأويل السلفي، تُوجِب هيمنة الإسلام على الدين كله، وتعتبر أن الأديان لاغيةً باطلةً منذ بعثة النبي الكريم، ولكن هذا التصور يدفع إلى نتائج كارثية في تربية المجتمع المسلم، حيث لا يرى في العالم إلا ضالين كافرين يستوجبون النار.
النبي الديمقراطي
سألنا حبش عن رأيه في السُّنّة النبوية الكريمة، وفي ما إذا كان يعتبرها مُتمِّمة للقرآن الكريم، فقال: رأيي في السُّنّة هو رأيي في القرآن، فالسُّنَّة النبوية الكريمة متمِّمة للقرآن الكريم ومنسجمة معه، ولستُ من أنصار إنكار السُّنّة، بل أعتقد أن مكانها في التكريم والاحترام هو مكان القرآن نفسه.
ويضيف حبش: على أنني أستطيع أن أرد الروايات الخرافية واللاإنسانية، ولو كانت في الصحيحين، (البخاري ومسلم) وهي على كل حال قليلة ومحدودة، ولكن القرآن والسُّنّة في النهاية كتب إرشاد وإصلاح، وليست كتب قانون وحقوق، وقناعتي أن القوانين تصنعها الأمة المسلمة عَبْر جهاز الشورى، وليس عَبْر خبراء اللغة ومفسِّري النصوص.
ويتابع حبش: لقد شرحت ذلك في كتابي ”النبي الديمقراطي“، وبيَّنت فيه أن النبي نفسه كان يعتمد منهجاً ديمقراطياً شُورَوِيّاً متقدِّماً، وأنه تراجع في 48 مرة عن آرائه وتعاليمه استجابة لتطوُّر الحياة وتغيُّر الواقع، بل إن القرآن نفسه ظهر فيه النَّسْخ 21 مرة في حياة الرسول الكريم، والنَّسْخ عند الفقهاء هو إزالة حكم سابِقٍ بحكم لاحِقٍ، وهو أوضح صور التطوُّر في الشريعة، ومع أن النَّسْخ خاص بزمن النُّبوّة، ولكنه استمر بعد النُّبوّة بشكل ظاهر عَبْر آليات سماها الفقهاء تقييد المطلق، وتخصيص العامّ، وتأويل الظاهر والقول بالتشابه، وهي آليات لا تختلف عن النسخ من حيث المآل، ووَقْف العمل بالنص.