أتوقع أن من يعتقدون أن حركة التاريخ محض صدفة أو مجرّد تدافع، إنما سيظنون أني من أنصار القول بنظرية المؤامرة، ذاك لأني مؤمن ببراءة العرب والمسلمين من أي اتهام بجريمة 11 سبتمبر التي كانت مبرراً لغزو الولايات المتحدة لأفغانستان، وقد كتبت يومذاك (إن أكبر الأغلاط التي وقعت فيها الأمة في مطلع القرن الجديد هو استسلامها وقبولها المسؤولية عما حدث في الحادي عشر من سبتمبر دون أن تقدم لها أدلة كافية ودون أن يقدم المتهمون إلى محاكمة دولية عادلة).
وأعلم أن كثيرين سيستهجنون أن أنكر على العرب انتصاراتهم فيما سماه بعضهم غزوة منهاتن أو غزوة نيويورك، ولعل بعضهم من بسطاء الناس، يريدون أن يكون أحد من العرب قد تمكن من اقتحام أمر جلل في كفاءة أذهلت أميركا، دون أن ينتبه جيداً إلى خطورة الاعتراف بمسؤولية عن جريمة كبرى دون أدلة، والمفارقة أن أميركا نفسها لا تزال تعتبر المتهمين مشتبهاً بهم، بينما يعتبرهم بعض المثقفين العرب مُدانين، وقد شكّلت القيادة الأميركية لجنة تحقيق برئاسة كيسنجر ولكن الرجل استقال على الفور لإدراكه حجم الصعوبات التي ستواجه التحقيق، وما ندري ماذا حل باللجنة، ولمَ توقف التحقيق؟
المهم أن الولايات المتحدة أعلنت انسحابها من أفغانستان بعد عشرين عاماً، وخلال هذه السنوات قامت بمحاربة تنظيم القاعدة الذي تأسس برعايتها، وهي التي اختارت ابن لادن لموقع القيادة، وهي التي قتلته في باكستان، ورمت جثته في البحر، وقد قامت إيران بحماية قادة القاعدة، وما تفرع عنها من تنظيمات، وجندتها للقيام بعمليات إرهابية في مناطق عديدة من العالم، وكان من أبرز هذه الفروع تنظيم داعش الذي أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترامب مسؤولية الولايات المتحدة عن تأسيسه (وكان من طرائف ترامب في حملته الانتخابية إصراره على اتهام أوباما وهيلاري بتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية) لكن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني كان قد سبقه بقوله (إن الرئيس باراك أوباما هو المسؤول المباشر عن نشوء داعش) وألف حول تفاصيل ذلك كتاباً بعنوان ”استثنائي“ وعلى الرغم من كوني لا أجد أهمية توثيقية لهذه التصريحات التي يمكن اعتبارها لغواً في صراعات سياسية، إلا أنني أعتد بكثير مما قدمه تيري ميسان في كتابه ”الخديعة الكبرى“ ويؤيد رؤيتي سيل من الكتب والدراسات التي سبقت 11 سبتمبر وأسست لتعبئة سياسية وفكرية وصلت ذرواتها مع برنارد لويس ثم صموئيل هنتغون وتلاميذهما البارعين في شيطنة المسلمين.
ولا أبرئ مسلمين كثراً من اعتقادهم بأن العالَم داران، دار كفر ودار إيمان، وهم يتعامون عن رؤية دار الجوار والحوار والعوالم الدبلوماسية والقوانين الدولية بل عن الإخاء الإنساني أولاً.
ونعترف بأن في الثقافات الدينية كلها ما يمكن اتخاذه ذريعة لتأجيج العنف، لكنه غالباً رهن بتاريخه وظروفه العسكرية، أما أن يرى الدواعش مثلاً أن رسولنا العظيم محمداً صلى الله عليه وسلم ”بُعث بالسيف“ كما قال البغدادي في الخطبة التي ألقاها في الموصل (وتم تصويرها بعدة كاميرات وبثت على الأقمار الصناعية!!) فهذا إنكار واضح لقول الله سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
والسؤال الآن إزاء ما يحدث في أفغانستان من ظهور عارم لطالبان (ولا أستبعد أن يواكبه ظهور جديد للدواعش -الفزاعة- في سورية) هل فوجئ الرئيس بايدن بأن إعلان الانسحاب من أفغانستان سيتيح الفرصة لطالبان كي تكتسح أقاليم أفغانستان؟
الجواب لا، لم يفاجأ، بل قال في دفاعه عن قراره (إن عملية الانسحاب السريع تنقذ الأرواح) وقال (إن مجرد عام إضافي من القتال في أفغانستان ليس حلا، ولكنه سيؤدي إلى إطالة أمد القتال هناك إلى أجل غير مسمى، ونفى بايدن أن تكون سيطرة طالبان "حتمية"، قائلا إن قوة طالبان التي يبلغ قوامها حوالي 75 ألف مقاتل لا تضاهي 300 ألف من قوات الأمن الأفغانية).
صحيح أن قرار الانسحاب جاء عبر الاتفاق مع طالبان في الدوحة، والتزم به وأعلنه ترامب، وأجله بايدن قليلاً، لكن الطريف أن يعلن البنتاغون عودة 3 آلاف جندي أمريكي سريعاً إلى أفغانستان فور الانسحاب، وكأن ما قامت به طالبان كان غير محسوب، وقد ترك أستاذ الفلسفة الدكتور أشرف غني لمواجهة طالبان وحركات الانشقاق الكبيرة عن جيشه الذي يخشى من ضراوة عودة الحرب الأهلية، وقد حمّل الرئيس أشرف غني واشنطن المسؤولية عن تدهور الوضع الأمني في بلاده، وقال في البرلمان إن "سبب الوضع الذي نحن فيه حاليا هو أن القرار اتُّخذ بشكل مفاجئ"، وقال إنه حذر الأميركيين من أن الانسحاب ستكون له "عواقب".
وما يدعوني إلى الاهتمام أكثر في ما يحدث في أفغانستان هو ظهور فصول جديدة من الصراعات الدامية التي لن تبقى داخل أفغانستان، واحتمال عودة نشاط داعش وكل التنظيمات المتطرفة التي تغذيها إيران، وخطر قيام دولة دينية سنية جوار دولة دينية شيعية، ولكل نصيب من الأهداف، ولا يغيب عن قادة إيران أن احتواء القاعدة ودعم داعش سيكون خطراً عليهم، لكنهم ضامنون أن هذه التنظيمات لن تحارب إيران (والدليل ما حدث في سورية و العراق) فلم تقم داعش بحرب ضد أحد غير أهل السنة و مناطق المسيحيين والأيزيديين، وكانت مهمتها الكبرى في سورية قتال الجيش الحر، واختطاف الثورة السورية إلى إعلان دولة إسلامية سمتها الإرهاب، وتقديم الدليل للنظام السوري بأنه يحارب إرهابيين يقف العالم كله ضدهم، وسيجد الدواعش في طالبان نصيراً لهم، وقد تمكنت إيران عبر احتلالها العراق وسورية ولبنان وتوسعها في اليمن أن تحقق هدفاً ضخماً هو طي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي، وإطلاق الصراع السني الشيعي، وليفتك المسلمون بعضهم ببعض.
ولا أريد أن يظن أحد أنني أعارض انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، فنحن ضد الغزو وضد كل احتلال في أي مكان، لكننا عايشنا انسحاب الولايات المتحدة من العراق، ورأينا كيف سلّم أوباما العراق للذئاب.