في أحد أكبر عمليات انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا منذ غزو روسية لها، روسيا تعطي الإيعاز لقواتها بالانسحاب من مدينة خيرسون بسبب الهجمات الأوكرانية المتصاعدة عليها.
فقد أمر وزير الدفاع الروسي قواته بالانسحاب من الضفة الغربية لنهر دنيبرو في مدينة خيرسون الاستراتيجية الواقعة جنوب أوكرانيا والتي تركز عليها القوات الأوكرانية هجماتها منذ شهور.
وقد تزامن حديث وزير الدفاع الروسي عن الانسحاب من خيرسون مع إعلان المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخروفا استعداد روسيالإجراء مفاوضات مع أوكرانيا بما يتماشى مع الواقع الحالي حسب تعبيرها.
الانسحاب الروسي من خيرسون وسقوطها بيد الجيش الأوكراني بعد أن استطاعت روسيا السيطرة عليها مع الأيام الأولى للغزو الروسي يمثل إذلالاً آخر يضاف إلى رصيد يتنامى ويكبر من الإذلال الأوكراني لروسيا ولبوتين، ولسلسلةطويلة لاتنتهي من الخسائر العسكرية الضخمة الأخرى التي تكبدتها روسيا وتتكبدها يومياً من جراء غزوها لأوكرانيا.
شويغو وزير الدفاع الروسي كان قد قبِل اقتراح قائد العمليات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرجي سورفيكين الذي أقر أن قرار الانسحاب من خيرسون ليس قراراً سهلاً، فقد برر الجنرال الروسي سورفيكين هذا الانسحاب أن روسيا تعيد تنظيم صفوفها على الضفة الأخرى من نهر دونيبرو جنوب مدينة خيرسون. وطبعاً هذا التبرير لا ينطبق فقط على الجيش الروسي فهذا المنطق هو الذي تتمنطق به جميع الجيوش وقادتهم المهزومين الذين يعمدون عند هزيمتهم من الجيش المقابل لهم ليقولوا ما قاله سوريفكين بأنه انسحاب تكتيكي، وما هو إلا لإعادة تنظيم الصفوف كما قال، وهو ليس إلا كلمة مخففة عن كلمة الهزيمة. مافعلته القوات الروسية عند انسحابها أنها فعلت ما يفعله المنهزمين عادة فقد قامت بتفجير كل الجسور على الضفة اليمنى لنهر دنيبرو لإلحاق أكبر ضرر بالبنية التحتية والفوقية في خيرسون قبل انسحابها منها وذلك قبل أن تختفي الأعلام الروسية عن المباني الإدارية بمناطق سيطرة روسيا.
الجانب الأوكراني أبدا حذراً من هذا الانسحاب ففي أول تعليقٍ على الانسحاب الروسي من خيرسون اتخذت أوكرانيا جانب الحيطة فقد نقلت رويترز عن مستشار بالرئاسة الأوكرانية قوله” لامعنى عن انسحاب روسي مادامت أعلامنا لاترفرف على خيرسون”.
سقوط خيرسون في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا كان ضربة قوية لها بسبب موقعها الاستراتيجي على البحر الأسود وتعتبر كذلك منطقة اقتصادية بامتياز ناهيك عن أنها تمثل مصدراً للمياه العذبة من نهر دنيبر الذي يزود شبه جزيرة القرم به والذي ضمته روسيا إليه في عام ٢٠١٤، وربما كانت هذه الأهمية والموقع أحد الأسباب المباشرة لغزو بوتين لأوكرانيا فمن يسيطر على خيرسون فإنه يسيطر نارياً على الجنوب الأوكراني ويستطيع بهذه السيطرة قطع أوصال ما ارتبط بها من مواقع، وسيطرته كذلك على طرق الإمداد اللوجيستي في المنطقة الجنوببة لأوكرانيا جميعها.
لمجمل هذه الأسباب عملت أوكرانيا وكانت مصممة على استعادة خيرسون فقد عمدت منذ شهور على التركيز عليها بعملياتها العسكرية ولا سيما بصواريخ هيمارس الأمريكية الذي يصل مداه إلى ٨٠ كم التي تحقق إصابات دقيقة بالمدرعات الروسية وهذا ماحدث، فعمدت إلى ضرب الجسور وكان آخره ضرب جسر القرم الذي أجبر القوات الروسية على استعمال القوارب والطوافات لنقل الآليات والجنود الأمر الذي قطع الإمدادات الروسية اللوجيستية عن القوات الروسية ما بين ضفتي نهر دنيبر، واقعاً كهذا أجبر قائد العمليات الروسية في أوكرانيا “سرجي سوروفيكين” للقول: بإن الوضع في منطقة خيرسون صعب للغاية وأن الوضع القتالي في تطور مستمر. فعلى الرغم من كل الإجراءات التي اتخذتها روسيا لمنع تطور الأمور لتأخير اتخاذ قرار الانسحاب من خيرسون غير أن كل هذا لم يؤخر اتخاذ مثل هكذا قرار، فقد سبق اتخاذها لقرار الإنسحاب أن جعلت روسيا منذ أيام ليست بالقليلة من قرار الانسحاب أن تجلي السكان منها وكان هذا مقدمة للإنسحاب عندما قررت إخلاء المدينة من ساكنيها إلى المناطق التي تسيطر عليها بالإضافة إلى إخلاء عملائها الذين عينتهم في خيرسون.
الانسحاب الروسي من خيرسون جعل من القوات الأوكرانية في حالة نشوة أدى إلى رفع معنوياتها فقد أعلنت أوكرانيا اليوم بأنها استعادت إثنتا عشرة قرية بمحيط خيرسون فقرار الانسحاب جعل معنويات الجنود الروس تزداد انهياراً يضاف إلى ماهم عليه، وربما هذا ما جعل الأمين العام لحلف الأطلسي اليوم ليقول: “إن روسيا مضغوطة في أوكرانيا”.
الانسحاب الروسي من خيرسون جاء ليحطم الأحلام الروسية في شن هجوم عبر خيرسون باتجاه مدينة ميكولايف وأوديسا، والذي كانت تأمل روسيا من هجومها المؤمّل الذي تبخر بفعل انسحابها من خيرسون والذي كانت تخطط بأن تمنع روسيا أوكرانيا من الوصول للبحر الأسود وهذا طبعاً لم يحدث ليبقى هذا حسرات عليها.
الانسحاب من خيرسون جاءت تتويجاً ونتيجة لسلسلة من الهزائم ونتيجة طبيعية لقائمة من الانكسارات التي منيت بها القوات الروسية على امتداد الجغرافية الأوكرانية فقد كانت روسيا تأمل أن يكون غزوها كرحلة صيد تصيد به الغزال الأوكراني وينقضي به الأمر ، وهذا ما حدا بها أن تطلق على حربها على أوكرانيا “عملية عسكرية” خاصة!” فإذا بأوكرانيا هي من تصطاد الدب الروسي وتنكّل به.
كثيرون كانوا ينتظرون نتائج وثمرات تقطفها روسيا من غزوها لأوكرانيا ولا سيما التنين الصيني، وإيران وكوريا الشمالية، فهم كانوا يراقبون ما يجري بكل اهتمام فهي إن استطاعت أن تحقق من عمليتها الخاصة في أوكرانيا ما أعلنت عنه فستحقق كذلك الصين ما ترومه من تايوان، وكذلك إيران في زيادة مد نفوذها في المنطقة العربية، وهذا ماجعل إيران تزود روسيا بالطائرات المسيرة لإحداث فرق في سير الحرب غير أن هذا لم يحدث.
ماجرى لروسيا من هزائم في أوكرانيا جعل كل من لديه مطامع بضم أراض دول جواره إليه جعلته يقف متأملاً ما الذي حدث لروسيا. فالإنسحاب من خيرسون بدد آمال هؤلاء جميعاً وأظهر مدى ضعف روسيا وعجزها عن تحقيق ما تريده هذا خارجيا، أما على الصعيد الداخلي فقد أدى هذا الانسحاب وسيؤدي إلى ارتفاع أصوات من عارضوا الغزو وسيجد بوتين نفسه في حرج وستضيق الدائرة عليه من المعارضين السياسيين والعسكريين لعملية الغزو التي أودت بحياة حسب مسؤول أمريكي إلى أكثر من ١٠٠ ألف عسكري روسي بين قتيل وجريح إضافة إلى الخسائر غير المسبوقة في العتاد الذي لم تخسره روسيا منذ الحرب العالمية الثانية.
الغطرسة الروسية وجنون العظمة التي انتهجها الدب بوتين أوردت روسيا الورد المورود الذي كان يأمل بوتين أن يرده ماء صافياً عذباً فإذا بهذا الورد نارا تلظّى، الوِرد عينه الذي أورد فرعون نفسه وقومه فيه، فهذا الأخير أي_فرعون_ لم يؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل إلا وهو يغرق، وها هو بوتين يغرق ويغرق روسيا معه، فقد كان بوسع بوتين أن يأخذ كل الذي كان يريد أن يأخذه سلماً لا حرباً لو أنه لوّح فقط مجرّد تلويح بعصاه التي يخيف بها دول جواره ولم يستعملها، أما وأنه قد استعمل عصاه التي كانت الدول من حوله تخشى أن يستعملها والتي بغزوه لأوكرانيا ذهبت هذه الخشية وأظهر أن هذه القوة وهذه العصا التي كانت تخيفهم لم تكن قوّة، وأن العصا التي كانوا يخشون من استعمالها لم تكن سوى عصا من ورق مقوّى، وهذا ما لاحظناه من ردود أفعال الدول التي بادرت بعدما تبين لها هذا كيف طلبت الانضمام إلى النيتو و بكل جرأة كالسويد وفنلندا التي لم تكن لتجرؤا أو أن تحلما مجرد حلم بالانضمام إلى النيتو أو أن تفصح عن رغبتها هذه لو لم يروا وهن وضعف روسيا وبوتين الأمر الذي سيجعل من إنضمام هاتين الدولتين للنيتو وبفعل بوتين يقترب ليصبح على حدود موسكو وبالقرب منها، هذا ماجناه بوتين وهذا الورد المورود الذي جعل روسيا ترِده.